بقلم الكاتب والصحفي : أسعد طه.

نشر بتاريخ :  25/ 9/ 2015

في منتصف صيف عام ألف وتسعمائة وثلاثة وتسعين ، وفيما كانت الحرب دائرة على أشدها في البوسنة والهرسك، وصل في يوم خميس إلى العاصمة الكرواتية شاب عربي ثري يحمل أموالا ضخمة فوضه بشأنها آخرون للصرف على إغاثة المتضررين من المسلمين. وفي ظهر اليوم التالي توجه إلى المسجد الوحيد في زغرب لتأدية صلاة الجمعة، نزل من الترام ومشى مسافة كبيرة هي الفاصلة بين المحطة وبين المسجد، على ضفتي الطريق مساحات شاسعة من اللون الأخضر الجميل، تتخلله خيام اللاجئين البوسنيين، نظر الشاب إلى الفتيات المتوزعات هنا وهناك، بشُقْرهن وشورتهن، وقال "من زعم أن هؤلاء وأهلهن مسلمون؟"، صلّى ثم حمل أمواله وأموال المتبرعين وغادر كرواتيا. الشاب رفض الاعتراف بهويتهم، فيما الصرب اعترفوا بها وعلى أساسها كانوا يذبحونهم.

لم يكن في تيرانا كلها إلا إشاراتين للمرور، فلا حاجة للعاصمة الألبانية لها، الزعيم الأوحد أنور خوجة حرم أي ملكية فردية، وهو حرم عليها الإسلام أيضا، لكنه للحق أبقى على مسجدها الأثري المتهالك في الميدان الرئيسي كشاهد على أن هذا كل ما تبقى من عدوه في هذا البلد. عندما توجهت إليه كان الشيخ صبري كوتشي مفتي البلاد رحمه الله، والخارج من السجن لتوه بعد عشرين عاما من الاعتقال، يصلي فيه الظهر ومعه رجلان، فيما اجتمع الناس، الذين هم مسلمون بالوراثة، يرقبون من الخارج وعبر نوافذ المسجد وبانبهار شديد فِعْلَ هؤلاء من ركوع وسجود، وكأنهم كائنات فضائية حطت على الأرض للتو.

لاحقا عرفتُ أن بعض العائلات الألبانية بدأت تختبر أسقف وأعمدة بيتها، بعد أن اكتشف بعضهم أن الأقدمين جمعوا المصاحف والكتب الدينية وغلفوها جيدا وربطوها إلى الجدران، ثم صبوا عليها الإسمنت ليخفوها عن أعين الشرطة، وليجدها أبناؤهم وأحفادهم لاحقا، قال لي أحدهم أن بعض هذه المحفوظات لم تكن سوى مجلات عربية لكن الحرف العربي أوحى لهم بأنها مقدسة.

تذكرت إذاعة الحياة التي تأسست في سراييفو وقت الحرب، كانت تذيع صباحا القرآن الكريم، ثم تليه بأغان عربية، سمعت يوما عقب القرآن أغنية يتغزل فيها المغني في الكأس وشرابه، هؤلاء البوسنيين مثل الألبانيين يشتاقون للإسلام، ويحسنون الظن في العرب، ويعتقدون أنهم أهل القرآن.

لقد ظلمت الشيوعية كل الناس وكل الأديان، لكن حظى المسلمون بالنصيب الأكبر من الاضطهاد، ولو قرأت أو سمعت ماذا فعلت بهم الشيوعية ثم سافرت إلى بلادها بعد سقوطها لتوقعت ألا تجد فردا واحدا ما زال على الإسلام، لكنهم ظلوا عليه، وإن كان ذلك بصورة على غير ما يتمناها العرب ويحاسبون عليها الناس.

العجوز التتارية في جنوب أوكرانيا، كانت تحكي لي أنها سُلبت من كل شيء عندما هجّرتها قوات ستالين من بلدها في القرم إلى سيبيريا، الأرض والبيت والمال وكل الممتلكات، لكنها سعيدة للغاية أنها احتفظت طوال تلك السنين بمصحفها وإن فقدت كل شيء.

في آسيا الوسطى، ما إن سقطت الشيوعية حتى خرج الدين وكأنه لم يُوأد من قبل، مثل خروج الجني من القمقم، بعد أن كانت المسبحة دليل اتهام يودي بصاحبها إلى غياهب السجن لسنوات، ها هم الشباب الآن يؤمون المساجد. دٌبر لي لقاء مع أحدهم ، قال لي كنت طفلا عندما كان والداي يلزماني بتعلم القرآن، كان معلمنا يأتي مساء متأخرا متسحبا، ثم ننزل به إلى قبو تحت الأرض، نسميه نحن الحجرات، نشعل شمعة أو مصباحا صغيرا حتى لا يرى الجيران ضوءا في المساء فيتساءلون لماذا نحن مستيقظون، ونظل في هذه الأقبية ساعات لا نفعل شيئا سوى حفظ القرآن، ربما الوالدان لا يعرفان من الدين إلا قليلا، لكنهما مثل آخرين حسبوا الأمر ببساطة، إذا لم يكن بوسعنا هزيمة الشيوعية، فلننقل المسؤولية إلى أولادنا وأحفادنا، حددوا المهمة في توريث الأبناء القرآن ، رغم أنهم لا ينطقون العربية.

ربما مثل ذلك الرجل الذي كان يخرج بابنه في سراييفو يغامر وقت الحرب ورصاص القناصة حتى يوصله إلى أحد الكتاتيب، ثم يجلس في حانة قريبة من المسجد يحتسي مشروبا كحوليا محلي الصنع إلى أن ينتهي ابنه من تعلم القرآن، كان يقول "لا أمل فيّ، لكن لا أريد لابني أن يكبر على شاكلتي".

رجل آخر في أوزبكستان، حكى لي كيف أن المعلمين كانوا يتعمدون إعطاءهم في نهار رمضان وهم صغار في المدارس بعض الأطعمة المجانية حتى يكتشفوا من يصوم منهم ومن لا يصوم، والعقوبة تقع على الطفل وعائلته، بل إنهم كانوا أحيانا يحاولون أن يستنطقوا الأطفال ليفشوا سر عائلتهم إذا ما كانوا على صومهم. قص لي أن أمه كانت تدربه كيف يصلي بحواجبه إذا ما حان وقت الصلاة وهو في المدرسة، حتى لا يلحظ أحد ذلك، مخافة أن يتعرض هو وعائلته للعقاب سنين طويلة وراء الشمس، يقول "كنت أجلس وأنظر إلى السبورة ثم أرفع حاجباي وأقول في سري الله أكبر ثم أنزلهما عند الركوع قليلا ثم أرفعهما ثم أنزلهما إلى أسفل كأني ساجد وأنا أتمتم بالصلوات في سري" ، لقد أجتهدت أمه في الأمر ، وكل همها أن تبقى الصلاة قائمة.

حكوا لي في العاصمة الداغستانية محج قلعة كيف كان بعضهم يحفظ القرآن، يذهبون إلى الجبال في أي ناحية من ناحية داغستان ويختبئون في الكهوف، يجلسون فيها ولا يخرجون إلا بعد أن يحفظوا قدرا من آيات الله ، في انقطاع عن العالم وعن عيون الشرطة، أما طعامهم وشرابهم فيتسلل إليهم به ذووهم من حين لآخر ، يعطونهم الزاد ويرحلون هربا.

كم مرة في أول التسعينيات لفّتني الدهشة وأنا ألمس شوق الناس في أي منطقة كانت تحكمها الشيوعية إلى أشياء بسيطة جدا، مسبحة، أو آية مكتوبة، أو حتى أي حرف عربي، كانوا يكابدون شوقهم للدين، وإن لم يصلوا ولم يصوموا. كنت أفرح بمشهد المآذن التي مازالت باقية هناك، كنت سعيدا أن هذه العمائر مازالت موجودة وكأنها خرجت من المعركة منتصرة، لاحقا تعلمت أن العمائر كانت في قلوب هؤلاء البسطاء حين احتفظوا فيها بدينهم فيما عجزت جوارحهم عن أن تفي بالمفروض من العبادة.

في يوم من أيام الحج صعدت أعلى الحرم، ألقيت نظرة على الحضور، وجدت عجوزين آسيويين هزيلي الجسد، اخترت الجلوس بجانبهما، صليت المغرب، ثم جلست لأقرأ القرآن، فوجئت بأحدهما الذي يجاورني يستدير قليلا لأكون أنا قبلته، ارتبكت، واصلت القراءة، صلينا العشاء، دعونا الله، أمسكت بمصحفي وقمت، فإذا هو ينظر إلي وكأنه يريد أن يقول شيئا غير أن اللغة تخذله، مددت يدي إليه مصافحا، انحنى سريعا ليقبلها، فزعت وسحبت يدي، الرجل عاجز عن أن يقرأ القرآن، ويعتقد أن الله إنما يصطفي الناس فيمنح بعضهم القدرة على قراءة كتابه، وكأنه يعتقد أنني من المصطفين ، ولو علم حالي لرماني بحذائه .

فهمت حالته، عندما عادت بي الذاكرة إلى يوم سافرت فيه إلى أقصى جنوب الفلبين، حيث المسلمون يناضلون للحصول على حقهم في حكم أنفسهم بأنفسهم، وعلى تقرير مصيرهم، وهم غير أولئك الذين يخطفون ويقتلون من جماعات أخرى. في هذه المناطق المعزولة عن العالم، يعيش الناس حياة بسيطة جدا، ويفرحون بوصول أي عربي إليهم. ما أنْ توقفت سيارتي أمام إحدى المجموعات المقاتلة حتى وجدتهم يستقبلونني استقبال الأبطال، وكأنني قائدهم الأعلى وليس صحفيا أو مراسلا جاء يمارس مهمته.

هناك في هذه المناطق التي يعيش الناس فيها على فطرتهم، يودعك الرجل بأن يحتضنك ثم يقبل كتفك، ثم يشم رائحتك، فإذا ما سألته أجاب: "أنت أيها العربي أتيت من عند بلاد النبي، وأنا أحب أن أشم رائحة النبي".