لا يأبه المواطن بالسياسات الاقتصادية الكلية، كل ما يأبه له هو تلك السياسات التي تؤثر تأثيرا مباشرا على مستوى معيشته، ولا شك أن التضخم هو أحد أهم القضايا التي تشغل بال المواطن المصري خلال الفترة الأخيرة، لا سيما مع صدور بيانات عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تشير إلى ارتفاع التضخم إلى أعلى مستوى له منذ عام 1986.


معنى التضخم

التضخم من ناحية يمكن التعبير عنه بأنه الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار، بمعنى أن الارتفاع في الأسعار قد يشمل جميع السلع والخدمات في الاقتصاد المحلي أو قد ترتفع أسعار سلع معينة دون غيرها.

ومن ثم فإن العنصر الأساسي في التعريف أن ذلك الارتفاع، سواء شمل جميع السلع والخدمات في الاقتصاد أو بعضها فقط لابد أن يكون ارتفاعا مستمرا لفترة طويلة من الزمن.

من ناحية أخرى يمكن التعبير عن التضخم بأنه انخفاض القوة الشرائية للأفراد، بمعنى أن الموظف خلال شهر مارس يمكنه الحصول على كمية أقل من السلع والخدمات من تلك التي كان بإمكانه الحصول عليها في شهر فبراير بنفس المرتب.


ما يحدث في مصر

ارتفع معدل التضخم السنوي في مصر إلى مستوى قياسي جديد ليسجل 31.7%؛ وفقا للبيان الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يوم الخميس الموافق التاسع من مارس 2017.

إن النسبة الأهم على الإطلاق هي تلك التي تعبر عن معدل الارتفاع في أسعار الغذاء والمشروبات، كون الغذاء يستحوذ على النسبة الأكبر من إنفاق محدودي الدخل. فقد  تضاعفت أسعار الغذاء خلال الشهور القليلة الماضية، وعلى سبيل المثال فقد ارتفعت أسعار الغذاء والمشروبات في فبراير الماضي بنسبة 4.1% مقارنة بشهر يناير.

نحن الآن نتحدث عن ارتفاع في الأسعار بمعدل 30% في العام الواحد، بمعنى أنه في خلال سنتين سيفقد المواطن 60% من قوته الشرائية، وإذا استمرت الأسعار في الارتفاع على هذا النحو وإذا ظل الدخل النقدي للمواطن كما هو دون تغير، فمن المتوقع أن المرتب الذي يحصل عليه المواطن اليوم سوف يفقد قوته الشرائية كاملة بعد حوالي 3 سنوات من الآن.


أسباب موجة التضخم الحالية

العرض والطلب

ترجع القصة إلى عام 2011، فمنذ ثورة يناير والاضطرابات  السياسية في ازدياد، هذه الاضطرابات واحتجاجات العمال المستمرة لرفع الأجور أدت إلى توقف الإنتاج في العديد من المصانع من ناحية، وإلى زيادة تكلفة الإنتاج من ناحية أخرى، مما أدى إلى انخفاض المعروض في السوق، وإذا انخفض المعروض من سلعة ما مع ثبات أو زيادة الطلب عليها فإن سعر هذه السعة حتما سيبدأ في الارتفاع.

ومن الجدير بالذكر أن نسبة التضخم في مصر عشية قيام ثورة 25 يناير كانت 11%، ووصلت الشهر الماضي إلى 31.7%،  أي أن التضخم ارتفع بنسبة 190% عن 2011.

رفع الدعم

في إطار أخذ نظام الانقلاب في مصر بما أسماه "سياسات الإصلاح الاقتصادي"، وفي ظل الاتفاق الذي تم عقده مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار تسلمت مصر الدفعة الأولى منها في نوفمبر الماضي، التزمت حكومة الانقلاب أمام الصندوق بتخفيض دعم الوقود تدريجيا كل عام، إلى أن يتم رفع الدعم تماما في غضون خمس سنوات.

وبالفعل بدأت الموجة الأولى من رفع الدعم في صيف عام 2014، وكان من المقرر أن يتم رفع الدعم مرة أخرى في صيف 2015، ولكن انخفاض أسعار البترول العالمية قد أزالت عن كاهل المواطن عبء التخفيض. إلى أن جاءت الزيادة الأخيرة في 3 نوفمبر الماضي، والتي تم بموجبها رفع أسعار الوقود بنسب تصل إلى 47%، فعلى سبيل المثال ارتفع سعر لتر السولار من 1.8 جنيه إلى 2.35 جنيه.

لعل رفع أسعار الطاقة -خاصة الوقود- يضرب المواطن البسيط في عقر داره، هذه الزيادة سوف تتسبب في رفع تعريفة المواصلات في جميع أنحاء الجمهورية، ناهيك عن ارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات التي يدخل الوقود في إحدى مراحل إنتاجها، سواء في مرحلة التشغيل والتصنيع أو في مرحلة النقل من المنتج إلى المستهلك النهائي.


تحرير سعر الصرف

منذ ثورة يناير والدولة تعاني ضغطا مستمرا على مواردها من النقد الأجنبي، ففي ظل تعثر الإنتاج المحلي بعد الثورة زادت الحاجة إلى الاستيراد من الخارج، وهو ما أدى إلى زيادة الطلب على الدولار.

هذا الطلب المتزايد على الدولار تم تلبيته مؤقتا من خلال إعانات دول الخليج السخية، لكن انخفاض أسعار البترول وتوتر العلاقة مع السعودية بعد وفاة الملك عبدالله أدى إلى تراجع المنح المقدمة من دول الخليج، وهو ما مثل ضغطا شديدا على الدولار، وزادت الحاجة إليه في الفترة الأخيرة بشكل كبير، وفي ظل محدوديته وقلة عرضه وعدم توافره في البنوك نشأت سوق سوداء، وهي سوق موازية للسوق الرسمية المتمثلة في البنوك والصرافات يتم بيع الدولار فيها بسعر مختلف عن ذلك الذي يتم التعامل به في السوق الرسمية.

حاولت الحكومة القضاء على السوق الموازية بشتي الطرق، إلى أن اضطرت مؤخرا إلى تحرير سعر الصرف تماما. هذا التحرير انعكس بشكل مباشر على معدل التضخم، فقد قفز معدل التضخم من 14% في شهر أكتوبر 2016 (قبل التعويم) إلى 20.2% في نوفمبر من نفس العام (بعد التعويم).

هذه القفزة في الأسعار التي تلت تحرير سعر الصرف كانت متوقعة، فسعر الدولار في السوق السوداء لم يكن يؤثر إلا على أسعار السلع غير الأساسية، وهي سلع لا يستهلكها السواد الأعظم من المصريين، أما السلع الأساسية فتستودرها الحكومة بسعر الصرف الرسمي في البنك، كذلك فإن الجمارك يتم فرضها بالسعر الرسمي أيضا، ومع تحرير سعر الصرف وارتفاع سعر الدولار، فإن جميع أسعار السلع المستوردة قد تأثرت بهذا الارتفاع في سعر الدولار بشكل طردي.


التضخم والفقر: وجهان لعملة واحدة

من المتوقع ارتفاع معدلات الفقر في مصر خلال الفترة القادمة ناهيك عن انحسار الطبقة الوسطى في مصر واختفائها تماما لصالح الطبقات الأدنى في السلم الاجتماعي، فخط الفقر العالمي يقدر بدولارين في اليوم، وإذا افترضنا أن سعر الدولار 8.88 جنيه، وهو السعر في البنك قبل التعويم مباشرة، فإن الفرد بحاجة إلى حوالي 18 جنيها في اليوم، أي 540 جنيها في الشهر للفرد الواحد، حتى يمكننا أن نقول إنه على خط الفقر.

ولما كان متوسط عدد الأسرة في مصر 5 أفراد، فإن خط الفقر يصبح 2700 جنيه في الشهر للعائلة.

ومع ارتفاع سعر الدولار الآن إلى مستوى الـ 18 جنيه، وبنفس طريقة الحساب السابقة، فإن خط الفقر للأسرة المصرية الآن أصبح 5400 جنيه. أى أن الأسرة المصرية التي كانت تحصل على 3-4 آلاف جنيه فى الشهر عام 2015 كانت تعد أسرة ميسورة الحال، أما الآن فقد أصبحت أسرة فقيرة.

هذا هو تأثير عامل واحد فقط، وهو تحرير سعر الصرف، على معدلات الفقر في مصر، وإذا أضفنا إلى ذلك رفع دعم الطاقة، بالإضافة إلى تطبيق قانون القيمة المضافة، سوف نجد أن المحصلة النهائية لكل هذه الإجراءت هو سحق الطبقة الوسطى وارتفاع معدلات الفقر في مصر بشكل ملحوظ.


هل تشهد مصر «انتفاضة جياع» مرة أخرى؟

تأثرت جميع فئات المجتمع بهذه الموجة التضخمية التي ضربت الاقتصاد المصري في الفترة الأخيرة، حتى الطبقة الغنية باتت تعاني هي الأخرى، وقد اتضح ذلك في مظاهرات طلبة الجامعة الأمريكية خلال شهر أكتوبر الماضي احتجاجا على ارتفاع المصاريف الدراسية نتيجة لتحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية. فإذا كان حال هؤلاء هو الاحتجاج فماذا عن الفقراء حقا؟ ماذا عن أصحاب الدخل المحدود والثابت من موظفي الحكومــة؟ ماذا عن الفلاحين في قرى مصر؟

من المتوقع أن ينتفض هؤلاء انتفاضة تأتي على الأخضر واليابس، انتفاضة على غرار تلك التي حدثت في عام 1977 جراء محاولة السادات رفع الدعم، ولكنه سرعان ما تراجع عن قراره ذلك، هذه الانتفاضة أطلق عليها السادات انتفاضة الجياع، وعلى الرغم من شعبية السادات الساحقة خلال تلك الفترة بعد انتصاره في حرب 73، فإن هذه الشعبية لم تغن عنه شيئا. وإذا استمرت الحكومة المصرية في انتهاج مثل هذه السياسات التي لا تراعي في المواطن البسيط إلاً ولا ذمة، فلا تلومن إلا نفسها.

أخيرا يمكننا القول إن التضخم هو الداء الذي يتفشى في جسد العملة ليمحق بركتها ويذرها ضعيفة هزيلة لا تحرك ساكنا، وإن تفشي هذا الداء في جسد الجنيه المصري كان نتيجة للإضرابات السياسية وضعف حركة الإنتاج في الاقتصاد المصري بعد الثورة، ناهيك عن تحرير سعر الصرف ورفع الدعم. خطورة هذا الداء العضال أنه إذا لم يتم علاجه في الحال فسيتخطى حدود العملة ليتفشى في جسد المجتمع، فيغير ملامح طبقاته ساحقا الطبقة الفقيرة وماحيا الطبقة الوسطى، محاولا إثارة القلاقل الاجتماعية والانتفاضات الشعبية.