للأستاذ: عبدالبديع صقر


ولدي الشهيد في ذمة الله

بقلم الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا

نشرت مجلة الدعوة منذ 40 عاما وبمناسبة ذكري الإمام كلمة لوالد الشهيد رحمه الله وها نحن نعيد نشرها، عظمة وعبرة، وليقرأ الجيل الجديد الذي لم ير حسن البنا .

عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة موت إبراهيم بن النبي صلي الله عليه وسلم، قال فجاء رسول الله صلي الله عليه وسلم فدعا بالصبي فضمه إلي صدره قال أنس فدمعت عينا رسول الله وقال " تدمع العين ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل ، والله إنا بك يا إبراهيم لمحزونون " .

تتمثل لي يا ولدي الحبيب في صورتين صورة وأنت رضيع لم تتجاوز الستة أشهر، وقد استغرقت مع والدتك في نوم عميق، وأعود بعد منتصف الليل، من مكتبي إلي المنزل فأري ما يروع القلب ويهز جوانب الفؤاد أفعى مروعة قد التفت علي نفسها وجثمت بجوارك،ورأسها ممدود إلي جانب رأسك وليس بينها وبينك مسافة يمكن أن تقاس .

وينخلع قلبي هلعا فأضرع إلي ربي وأستغيثه فيثب قلبي ، ويذهب مني الفزع ، وينطلق لساني بعبارات واردة في الرقية من مس الحية وما أفزع من تلاوتها حتى تنكمش الحية علي نفسها وتعود إلي جحرها، وينجيك الله يا ولدي من شرها لإرادة سابقة في علمه ، وأمر هو فيك بالغه .

وأتمثلك يا ولدي وأنت صريع وقد حملت في الليل مسفوكا دمك،ذاهبة نفسك، ممزقة أشلاؤك، هابت أذاك حيات الغاب،ونهشت جسدك الطاهر حيات البشر! فما هي إلا قدرة الله وحده تثبت في هذا الموقف،وتعين علي هذا الهول وتساعد في هذا المصاب فاكشف عن وجهك الحبيب فأري فيه إشراقة النور وهناءة الشهادة، فتدمع العين ، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل "إنا لله وإنا إليه راجعون" وأقوم يا ولدي علي غسلك وكفنك وأصلي وحدي من البشر عليك، وأمشي خلفك، وأحمل نصفي، ونصفي محمول، وأفوض أمري إلي الله إن الله بصير بالعباد .

أما أنت يا ولدي فقد نلت الشهادة التي كنت تسأل الله تعالي في سجودك أن ينيلك إياها فهنيئا لك بها ، فقد روي البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلي الدنيا وإن له ما علي الأرض من شيء إلا الشهيد فإنه يتمني أن يرجع إلي الدنيا فيقتل عشر مرات لما يري من الكرامة "

اللهم أكرم نزله وأعل مرتبته واجعل الجنة مثواه ومستقره اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله .

وأما أنتم يا من عرفتم ولدي واتبعتم طريقته إن خير ما تحيون به في ذكراه أن نسجوا علي منواله وتترسموا خطاه فتتمسكوا بآداب الإسلام وتعتصموا بحبل الأخوة وتخلصوا النية والعمل لله .
حسن البنا أمل الشرق في صراعه مع المستعمر

كتبت جريدة " النيويورك بوست " الأمريكية في 13 فبراير سنة 1946 لمراسلها في القاهرة زار هذا الأسبوع رجلا قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ الحاضر أو قد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه ، هذا الرجل هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين ، وقد صار الإخوان عاملا مهما في السياسة المصرية ، ويقول الأستاذ البنا أن حركة الإخوان فوق الأحزاب وسبيلها هو العودة إلي القرآن وغايتها جمع كلمة المسلمين في كل أرجاء العالم .

وهذا نص الحديث :

    هل أنتم مسلحون ؟

    نعم بسلاح الإيمان .

    ما سر استعمال السيفين في الشارة ؟

    هما رمز الجهاد .

    والمصحف ؟

    دستوره .

    متى بدأت دعوتك ؟

    لا أستطيع أن أحدد متى وكيف نشأت دعوتي هذه فهناك أفكار برزت عقب تخرجي من دار العلوم في شعبتي الإسماعيلية وشبراخيت .

    * هل عندك مال؟'

    نحن أفقر جمعية وأغني جمعية ، مالنا الرسمي اشتراكات الإخوان، ومالنا الحقيقي:خزائن الإخوان .

وفي سنة 1951 يبعث روبرت جاكسون " الصحفي الأمريكي " بقصة لقائه بالإمام الشهيد التي نشرتها النيويورك بوست يبعث بها إلي "النيويورك كرونيكل "

ثم يقول معقبا:

    هذا ما كتبته منذ خمس سنوات وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليه فقد ذهب الرجل مبكراً وكان أمل الشرق في صراعه مع المستعمر وأنا أفهم جيداً أن الشرق يطمح إلي مصلح يضم صفوفه ويرد له كيانه وطالما رجا الكتاب والمفكرون اقتراب اليوم الذي يحقق فيه هذا الأمل ، غير أنه في اليوم الذي بات فيه مثل هذا الأمل قاب قوسين أو أدني انتهت حياة الرجل علي وضع غير مألوف ، وبطريقة شاذة .

    هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلا بالكنز الذي يقع في يديه لقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذة عندما كنت أزور القاهرة بعد أن التقيت بطائفة من الزعماء المصريين ورؤساء الأحزاب .

    خلاب المظهر دقيق العبارة بالرغم من أنه لا يعرف لغة أجنبية لقد حاول أتباعه الذين كانوا يترجمون بيني وبينه الحديث أن يصوروا لي أهداف هذه الدعوة وأفاضوا في الحديث علي صورة لم تقنعني وظل الرجل صامتا "حتى إذا بدا له الحيرة في وجهي قال لهم قولوا له:هل قرأت عن محمد؟قلت:نعم ، قال : هل عرفت ما دعا إليه وصنعه؟ قلت: نعم قال: هذا هو ما نريده وكان في هذه الكلمات القليلة ما أغني عن الكثير" .

    وسافرت من مصر بعد أن حصلت علي تقارير وافية عن الرجل وتاريخه وأهدافه وحياته وقارنت بينه وبين محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والمهدي السنوسي ومحمد بن عبدالوهاب فوصل بي البحث إلي أنه قد أفاد من تجارب هؤلاء جميعا وتفادى ما وقعوا فيه من أخطاء؛

    ويراه محمد عبده عن طريق التربية واستطاع حسن البنا أن يدمج الوسيلتين ووصل إلي ما لم يصلا إليه لقد جمع صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة إلي مذهب موحد وهدف موحد ثم أخذت أتتبع خطواته بعد أن عدت إلي أمريكا وأنا مشغول به حتى أثير حوله غبار الشبهات حين ما انتهي إلي اعتقال أنصاره وهي مرحلة كان من الضروري أن يمر بها أتباعه ثم استشهاده قبل أن يتم رسالته .

    وبالرغم من أنني كنت أسمع في القاهرة أن الرجل لم يعمل شيئا حتى الآن وأنه لم يزد علي جمع مجموعات ضخمة من الشباب حوله ، غير أن معركة فلسطين ومعركة التحرير في القناة قد أثبتتا بوضوح أن الرجل صنع بطولات خارقة قَلٌ أن تجد مثلها إلا في تاريخ العهد الأول للدعوة الإسلامية .

    ولو طال عمر هذا الرجل لكان يمكن أن يتحقق لهذه البلاد الكثير خاصة لو اتفق حسن البنا وآية الله الكاشاني الزعيم الإيراني علي أن يزيلا الخلاف بين الشيعة والسنة.وقد التقي الرجلان في الحجاز 1948 ويبدو أنهما تفاهما ووصلا إلي نقطة رئيسية أن عوجل حسن البنا بالاغتيال .

    كل ما أستطيع أن أقوله أن الرجل أفلت من غوائل المرأة والمال والجاه وهي المغريات التي سلطها المستعمر علي المجاهدين وقد فشلت كل المحاولات التي بذلت في سبيل إغرائه وقد أعانه علي ذلك صوفيته الصادقة وزهده الطبيعي .

    لقد تزوج مبكراً وعاش فقيراً وجعل جاهه في ثقة أولئك الذين التفوا حوله لقد أعلنت عليه الأحزاب حربا عنيفة رغم أنه كان يؤمن بالخصومة الفكرية ولا يحولها إلي خصومة شخصية .

    كان الرجل يقتفي خطوات عمر وعلي ويصارع في مثل بيئة الحسين فمات مثلهم شهيداً وإنني علي أتم يقين من أن أي حركة وطنية تظهر في الشرق بعد ذلك يمكن إرجاعها إلي المقاييس التي وضعها هذا الرائد العملاق .

12 عاماً مع الأستاذ البنا

الوفاء لدعوة الله أولا وللمعلم الذي قتل مظلوما والذي استطاع أن يربي جيلا له نشاط نافع علي مستوي العالم كله وجمع مئات الألوف من الجنيهات تبرعا من الأيدي الفقيرة وأنفقها في سبيل الله كلها ثم توفي عن ستة جنيهات لا غير تركها لأسرته من ماله الخاص .

المعلم الذي رفع شعار (الموت في سبيل الله أسمي أمانينا) ثم كان هو أول عضو في الجماعة حقق الله له هذا الشعار : أتاه هذا الشرف قبل سواه .
لماذا نكتب عنه ؟

من سنة الله أن يموت الصالحون كما يموت الظالمون وتري بعض الناس يقولون:(اتركوا الأموات وحسابهم علي الله) وفي هذا بعض الصواب ولكن إذا كان هذا الميت صالحا فمن الخير أن نذكره بالخير كتاريخ نافع مؤثر فيمن يخلف من البشر .

وإذا كان هذا الميت فاسدا فمن الخير والمصلحة أيضا أن نكشف عن فساده وظلمه خصوصا إذا ترك أتباعا مخدوعين أو مدرسة فكرية ستضاعف الشر علي مدى الأيام ومن أجل ذلك جاء القرآن الكريم يصف الأنبياء والصالحين يصالح أعمالهم ويصف فرعون وهامان وجنودهما بأنهم:(كانوا خاطئين) .
ماذا صنع البنا ؟

إن قال قائل:

    (إن هذا الرجل أنشأ جماعة كبيرة في مصر والعالم العربي تعرضت بسبب أفكاره لأبشع نكبة في التاريخ فهذا حق)

وإن قال قائل:

    (إنه أنشأ أضخم تجمع في العصر الحديث ارتبط علي فهم الإسلام الصحيح وأن النكبة ضاعفت أتباعه وزادتهم تثبيتا) فهذا أيضا حق .

    سألناه يوما:(لماذا لم تكن لك مؤلفات كبيرة؟)

    فقال:(أنا مشغول بتأليف الرجال ثم هم يؤلفون الكتب) .

ولقد صدق حدسه فإن تلاميذه لا يزالون يوجهون التيار المستنير المؤثر في معظم أصقاع الأرض .. لا ينكر هذا إلا جاحد .
ما الذي تميز به البنا

إذا أنت سألت أي إنسان واع من غير أعضاء الجماعة وممن عاصروا البنا:

    (ما الذي أثار إعجابك بهذا الرجل ؟ فربما يقول لك : (لقد استمعت إليه مرة أو مرات ، فكنت أحس أنه خطيب يختلف عن الخطباء لا أعرف لماذا؟) أو يقول : (لقد خالطته فأدهشني ما يتمتع به من عقل وعاطفة) أو يقول:(لقد خاصمته فوجدت منه الإنصاف والانتصاف) .

    بين تصرف معين يأتيه الزعيم أمام أتباعه وهو قاصد من باب الدعاية أو التغطية لكي ينقل عنه ذلك وبين رجل منطلق في تصرفاته العفوية لا يتوقع أن ينتبه إليها أحد أو أن يذكرها له أحد هو الفرق بين طبيعة الصدق وطبيعة التمثيل .

بدء الصلة

لقد نشأت في قرية بني عياض مركز أبو كبير بالشرقية وفي سنة 1935 حصل علي شهادة (البكالوريا) ولم أجد وظيفة فاشتغلت عاملا في أحد المحلات التجارية كنا نشتري البن المطحون من محل الشيخ أحمد عبد الكريم نشأت بيني وبينه مودة خاصة إذ كان كل منا يفرح بلقاء الآخر دون سبب ظاهر .

ذات يوم أعطاني رسالة (نحو النور) وقال (اقرأها وارجع إلي غدا) فلما رجعت إليه أمسك بيدي وقال : (إن كان أعجبك هذا فاتصل بجماعة الإخوان ومقرهم القاهرة عمارة الأوقاف بميدان العتبة الخضراء وعاد ينشغل (بالزبائن) .

تركت العمل بفاقوس وذهب بعد شهور أبحث عن عمل القاهرة وكان ذلك في سنة 1936 وانتهيت إلي ميدان العتبة ووقعت عيني علي اللافتة فدخلت الدار ووجدتها غاصة بالناس وهناك (أفندي) ربعة يلبس معطفا طويلا وطربوشا (نازلا) وله لحية سوداء يخطب في الحاضرين .

ومازلت أذكر من تلك الخطبة قوله رحمه الله:

    (لقد نجح المستعمرون في تثبيت الفصل بين الدين والدنيا وهو أمر إذا صح في دينهم فلا يصح في ديننا فلماذا يكون رجل الدين بعيداً عن السياسة،ورجل السياسة بعيداً عن الدين؟) ثم ما هي السياسة .

    أليست هي التعليم والتربية وتوزيع الأرزاق وتوفير الأمن والعدل للأمة في الداخل والخارج وإذا كانت الوزارات تمثل السياسة فقد نجد اختصاص ست وزارات داخلا في قول الله تعالي : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى . وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ) .

    فإن كانت السياسة هي ما تقدم ، فهي جزء من دين الإسلام وإن كانت السياسة هي الحزبية وما تجره علي الأمة من صراع وتفرقة فهي ليست من الإسلام لقوله تعالي (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) .

الله أكبر ولله الحمد

ولأول مرة وجد جماعة لا يعبرون عن إعجابهم بالتصفيق وإنما بقولهم جميعا (الله اكبر ولله الحمد) إنه شيء يهز جوانب القلب المؤمن وانتهي الاجتماع وانصرف بعض الحاضرين وأقيمت الصلاة وصلي معهم فأحسست أن هذا الشيخ يقرأ القرآن بطريقة عجيبة إن الوقفات التي تقف عليها تفسيرا للقرآن أثناء التلاوة كقوله تعالي (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه...) فتشعر أن كلمة (نبتليه) فيها سر الوجود .

    وبعد ذلك عُقدت جلسة خاصة للتعارف ، وأدخلت نفسي فيها فقد نسيت نفسي وعنوان منزل صديقي وأصبحت في القاهرة(ضائعا) تقريبا إنني قصير القامة وكنت خفيف الجسم فلم تقع علي عين .. ولكن الشيخ أدار عينه في الجالسين ثم قال (يا صالح خلي الأخ الجديد الذي بجوارك يحضر ويجلس عندي) وفجأة وجدت نفسي في صدر المجلس وكلفني بالتحدث إلي الإخوان عن كيفية حضوري إلي دار الإخوان وقصصت عليهم القصة وشعرت أنهم بلغ بهم التأثر؛

وقال المرشد معقبا:

    (أنظروا كيف يعيش الأخ بدعوته في تجاره ونومه ويقظته؟) ثم ضرب مثلا بسيدنا يوسف الذي رافقته دعوته إلي السجن ثم أصبحت خلاصا لمصر كلها من الضلال والجوع ثم قال:من يضيف الأخ؟ فارتفعت أيدِ كثيرة،فقال اذهب مع حسن صادق وإخوانه .

    فذهبت مع ثلاثة من الطلبة الجامعيين ودخلنا بيتا نظيفا في المنيرة قدموا طعاما فأكلنا ونمت نوما متقطعا بعد ساعة لاحظت أحدهم قام في الليل فتوضأ وشرع يصلي ثم عاد لفراشه وقام غيره يصلي وسمعته يبكي في الصلاة وعندما حانت صلاة الصبح قام أحدهم فأذن بصوت هادئ وصلينا ثم جلسنا نقرأ ورداً واستغفارات إلي أن أشرقت الشمس فأعادني أحدهم لدار الإخوان قائلا (نحن ذاهبون لأعمالنا الآن وقد تآخينا معك في الله فلا تقطعنا) وأعطاني العنوان .

    جلست أفكر في هذا النوع الجديد من شباب مصر لأول مرة أري أساتذة وطلبة جامعيين يبكون في تلاوة القرآن ويتطوعون بمؤاخاة مثلي وأنا أشد الحاجة للمواساة.أخذت مجموعة من رسائل الإخوان المسلمين ورجعت للريف إذ لم أجد عملا القاهرة.

وكان العمل

واشتغلت مرة أخري بمدينة الصالحية ، وهناك أنشأنا شعبة للإخوان ودعونا الإمام المرشد لافتتاحها ومازلت أذكر ونحن وقوف علي محطة سكة حديد الصالحية أن جاء من يحمل برقية باسمي وفتحتها فإذا فيها:(سيتأخر القطار ربع ساعة بالزقازيق فصبرا) .

أخوك حسن البنا

وعجب الحاضرون من شخص يعتذر نيابة عن القطار وأقيم حفل الصالحية وكان ناجحا مثمرا حضره المرحوم صالح بك الزملوط عمدة المدينة وكبار الموظفين وأعيان البلاد حيث تعرفوا علي الدعوة وعجب الناس مرة أخري من استجابة حسن البنا لدعوة موظف صغير بأقصى بالشرقية علي كثرة مسئولياته في القاهرة.

بعد عام آخر رشحني بعض الأخوة لوظيفة (معاون الدار) بالمركز العام بالقاهرة وفرحت بهذا العمل كثيرا وكان المرتب جنيهان شهريا،إلا أنه كان رزقا كافيا ومباركا حتى كنت أسلف منه المحتاجين أحيانا،وقد اكتسبت في هذه الفترة الكثير الطيب ولله الحمد بسبب الاتصال القريب بالأستاذ المرشد ومجموع الإخوان سواء منهم المقيمون القاهرة أو الوافدون من الأقاليم .

أول شيء كان يميز هذا الرجل في تقديري هي الربانية،وتلك صفة جامعة تنطوي تحتها صفات شتى كالصدق والعبادة والخشية وبساطة الحياة والعفة وعزة النفس .

أما صدقه

فلا يستطيع أحد ممن عاشروه أو اتصلوا به أن يذكر أن حسن البنا قد أخلف موعدا باختياره أو كذب في قول أو خان أو نقض عهدا طيلة حياته .

والأهم من ذلك هو صدقه مع نفسه ومع ربه عز وجل عندما شرع بناءمسجد للإخوان والدار والمؤسسات التابعة لها بالإسماعيلية كتب علي نفسه كل الديون المستحقة للمقاولين وعندما عزم الإخوان علي شراء القصر الذي بالحلمية ليكون المركز العام كتب علي نفسه كل الديون المتبقية للالتزام بها .

أما عبادته

لقد كانت متوسطة الأداء مطمئنة غير أنه كان يكثر من تلاوة القرآن في الصلاة ومن طوال المفصل خصوصا في الفجر والعشاء وكان يصلي بنا التراويح بالقرآن كله في شهر رمضان ثماني ركعات .

أما في بيته كان يقوم من الليل كل ليلة تقريبا وكان يصوم من أواسط الشهر وأحيانا الخميس إلا أن يكون مسافرا وكان يتصدق كثيرا ويسعد بتفريج الكربات من ماله أو من مال الجماعة ولا نعلم إن كان له مال تجب فيه الزكاة .

وأما التلاوة فقد كانت له (حصة) من القرآن لا يغفل عنها برغم مشاغله الكثيرة وكذلك الذكر والاستغفار ولم يترك ختام الصلاة إلا أنه يقتصر علي الوارد في السنة دون سواه .

كان يتحري في توقيت الاجتماعات والمحاضرات والدعوات واللقاءات أن تصطدم بوقت محدد لفريضة واجبة أذكر أننا دعينا لمحاضرة في قاعة الشبان المسلمين بالقاهرة وفيما نحن عند الباب والجماهير متوجهة للقاعة التقي بمجموعة من الأدباء منهم أحمد أمين ومحمد حسين هيكل وغيرهم وسمعنا أذان المغرب فقال لهم (نصلي أولا ؟) قال بعضهم (نحن علي غير استعداد) قال (الماء موجود والمغرب غريب حي عليها) . فمنهم من أطاع ومنهم من تفلت .

وأما خشيته

فقد كنت تشعر بها عندما يتكلم عن الجزاء وتشعر بها عندما يعرض الحديث عن جلال الله سبحانه ووصف النار ومحاسبته للعباد ومسؤوليته الرعاة يوم القيامة أمام رب العالمين وكان يتحرز من الشبهات فضلاً عن الحرام وكان يحب الصمت في الخلوة ويدعو لطول التفكر وقد وضع للإخوان (ورد المحاسبة) وعنوانه الآية الكريمة : (كفي بنفسك اليوم عليك حسيباً) .

وأما بساطته

فقد كانت تتمثل في ملبسه ومطعمه ومسكنه وطريقة حياته كلها لقد أوتي الإمام البنا في حياته مجدا لم يتوافر لأحد من الزعماء المعاصرين قط .. والذين خططوا لمقتله كانوا يخشون خطرا حقيقياً من رجل اكشف السر الذي يمكن أن تتبلور عليه قوى الشعب كله ، وإن كان في موازين الناس واحداً من الفقراء لا يثير انتباها .

لقد دهش النحاس باشا عندما نبهته دار الاعتماد البريطاني سنة 1935 إلي (مدرس الخط العربي ) بمدرسة عباس وخطره علي مصالح البريطانيين ، فأرسل من يبحثون عنه فلم يجد شيئا يستحق الاهتمام كان رحمه الله يحب النظافة وحسن الهندام ولكن بلا مبالغة ولا مشغلة

ذات مساء،وكان متوجها لمقابلة أمين عام جامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام (باشا) قلت له:(إن في عباءتك البيضاء بقعة) ، فقال علي الفور : (بقعة خير من رقعة) لقد كانت في ثياب مشايخنا ومن هم خير منا أكثر من رقعة ثم مضي ، ويوما قلت له : (ألا أكوي لك البنطلون ؟) . قال مبتسما:(إما الحرص علي خط المكواه وإما الحرص علي الطمأنينة في السجود) .

كان يحب أن أجهز له طعامه في خلوته (بالبدروم) وأتركه مغطي له حتى يعود في أي وقت ولقد كان غالب طعامه مكونا من رغيف خبز وقطعة جبن أبيض وبعض العنب أو البطيخ .

ذات يوم ونحن نسير في (سكة راتب باشا) مال علي تاجر البطيخ وطلب واحدة وقال كم تريد؟ قال:خمسة عشر قرشا فدفعها علي الفور فقلت له (يا فضيلة الأستاذ هذا الرجل غشاش إنها بعشر قروش فقط) فنظر إلي مبتسما وقال:(والدعوة أليس لها ثمن ؟).

أرسلني رحمه الله لصرف مرتبه من مدرسة عباس فأحضرته إليه وكان أكثر قليلا من عشرين جنيها وقضي يومه بالمركز العام حتى انتصف الليل ولا أعلم كيف وزع مرتبه في اليوم الأول من الشهر . ثم خرج متجها إلي شارع محمد علي ليأخذ الترام إلي منزله بالسبتية .

وحدث أن رتب فريق الكشافة بشعبة القلعة رحلة مبيت بجبل المقطم ودعوا إليه المرشد العام وكان موعد التحرك بعد درس الثلاثاء الذي كان الجميع يحرصون عليه وصعدنا الجبل مشاة حتى وصلنا للمعسكر في غاية الجوع والإرهاق وبدأ (الطبيخ) في منتصف الليل

لقد كان المفروض أن يكون العشاء (عدسا) والمشروب (حلبة) لكن المكلفين بالطعام أخطأوا فلم يميزوا القراطيس في الظلام ووضعوا الحلبة مع العدس في القدور وعند تقديم الطعام وجدناه مرا لا يطاق وارتفعت صيحات الاحتجاج علي (هذه الفوضى) ولكن المرشد حسم النزاع بأن طالب الجميع باختيار اسم لهذه الطبخة وأخيرا سميناها (حلابسه) وتحول الاحتجاج إلي مرح وسرور (وأكلناها) .

كان عفيفا ورعا

لا شك أن الربانية تورث غنى النفس والرضا في يد الله والطمع فيما عنده وهو الغنى الحميد وكذلك كان حسن البنا يعطي أكثر مما يأخذ ويستدين علي مورده القليل ليحمل الكسل ويكسب المعدوم .

ذات مرة كنا في زيارة لعمدة كفر أبو كبير وكان رجلا ثريا درس في انجلترا وقدم القهوة في فناجين زجاجية لها قواعد (تلبيسات) من الذهب ونظرنا لنري ما يفعل المرشد العام وبكل بساطة رأيناه قد اقلع الفنجان الزجاجي من تلبيسته الذهب وشرب،ولم يقطع حديثه ولم يكف عن المضيف بشره ولم يشعر بذلك إلا قليل.

وأذكر من حديثه في ذلك اليوم أنه كان تعليقا علي قول الله تعالي : (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشي الله من عباده العلماء) فقال للعمدة:لعلك توافق علي أن المقصود بالعلماء هنا هم علماء الجيولوجيا والأجناس والحيوان والعلوم الكونية .

وبلغ من أمانته للعلم وورعه أنه كان يفضح نفسه ويصحح خطأه أحيانا علي ملأ من الناس في الأحفال العامة إن وجد ذلك لازما،فقد يكتب إليه بعض الناس ملاحظة أو تذكيرا بصورة خاصة فيقوم يعترف بالخطأ ويعلن الحق لجانب الآخرين ، ونعتقد أنه لا يقدر علي هذا من الزعماء إلا قليل .

وأما العزة

فقد كان عظيم الاعتداد بالدعوة والجماعة كبير الأمل في الله تعالي سمعته يقول يوما لأحد نواب الشعب (لا تصفقوا لأحد ولا تسيروا في ركاب أحد، ولتكن عزتكم بالله وحده) وكان كثير ما يسخر بالسلطة الغاشمة ويقول إنهم يقولون عنكم (غر هؤلاء دينهم) فتوكلوا علي الله لا شريك له .

ونفس الوقت كان يحذر من الغرور والاندفاع والإعجاب بالنفس لأن الخط الذي يفصل بين الاعتزاز بالنفس والاغترار بها خط دقيق جداً .
أما صفة التنظيم والإدارة

فلقد كان رحمه الله يملك عقلا منظماً بفتح الظاء المشددة وكسرها وإذا أتيح لباحث أن يتعرف علي أقسام الجماعة ونشاطاتها المختلفة وكيف كانت تمارس عملها في آلاف الشعب والفروع ، فلا يملك إلا أن يعترف بأن (مرشد هذه الجماعة واحد من العباقرة الأفذاذ) وكثيراً ما كانت التهمة الموجهة لهم فيما بعد أنهم أصبحوا (دولة داخل دولة) وهذا التعبير صحيح من الوجهة التنظيمية لفعل الخير ولكنه اتهام جد ظالم إن كان المقصود به عرقلة مسيرة الدولة أو التدخل في شئونها أو الطمع في الزحف عليها .

فقد أثبتت أحكام المحاكم العديدة من سنة 1936 إلي سنة 1948 براءة ساحة الجماعة تماما من كل ما نسبته إليها أجهزة الحكم والبوليس وإن أصابت أحكامها بعض المنتسبين لها وهو أمر لم تسلم من مثله هيئة قط .

سعة أمله

وكان واسع الأمل أو قل واسع الخيال،وهي صفة لابد منها لكل مصلح وأحيانا يستفتح الحديث بقوله (دعونا نتخيل وجود شعب مؤمن فاهم، يحقق كذا وكذا) .

ومن كلماته السائرة (حقائق اليوم أحلام الأمس ، وأحلام اليوم حقائق الغد ) وقد طلب منه بعض العاملين في دار المركز العام أن يعطيهم إجازة لدراسة الدكتوراه والماجستير، فكان جوابه لهم جميعا (الأمر أعجل من ذلك إن الذي نحن فيه أهم وأكبر من نيل الدرجات ) .

نشاطه وعمله المتواصل

كان ينفق مالا يقل عن 16 ساعة عمل المتواصل في غالب الأيام بعد استقالته من التدريس ولا ينام من الليل إلا القليل وكانت خصلة الدأب والنشاط الدائم عنده تنتقل بالتقليد إلي سائر العاملين في القطر كله .

وليس سهلا علي أي إنسان أن يحقق الفناء في الغاية والسعي إلي الهدف الذي حدده لنفسه دون أن ينسي الحقوق الأخرى المرتبطة به كحق البيت وحق النفس وحق الأولاد والأرحام ولكن اليقظة والتنظيم تبارك الوقت وتحقق الواجب علي كل حال .

 

يتبع