نقلا عن كتاب "في ظلال القرآن" للشهيد "سيد قطب" رحمه الله، وجانب من خواطره حول سورة الأنفال:

 

غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَىَ

 

الـ17 من شهر رمضان، العام 2 هـ


قال ابن إسحاق :ثم إن رسول الله [ ص ] سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلاً من الشام في عير لقريش عظيمة , فيها أموال لقريش , وتجارة من تجاراتهم . وفيها ثلاثون رجلاً من قريش أو أربعون . .

قال ابن إسحاق:فحدثني محمد بن مسلم الزهري , وعاصم بن عمر بن قتادة , وعبد الله بن أبي بكر , ويزيد بن رومان , عن عروة بن الزبير . وغيرهم من علمائنا , عن ابن عباس رضي الله عنهما . . كل قدحدثني بعض الحديث , فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر , قالوا:

لما سمع رسول الله [ ص ] بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم , وقال:" هذه عير قريش فيها أموالهم , فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها " فانتدب الناس , فخف بعضهم وثقل بعضهم , وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله [ ص ] يلقى حرباً [ وفي زاد المعاد وإمتاع الأسماع أنه [ ص ] أمر من كان ظهره - أي ما يركبه - حاضراً بالنهوض , ولم يحتفل لها احتفالاً كبيراً ] . . وقال ابن القيم:" وجملة من حضر بدراً من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً:من المهاجرين ستة وثمانون . ومن الأوس واحد وستون . ومن الخزرج مائة وسبعون . وإنما قل عدد الأوس عن الخزرج , وإن كانوا أشد منهم وأقوى شوكة وأصبر عند اللقاء , لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة , وجاء النفير بغتة , وقال النبي [ ص ] لا يتبعنا إلا من كان ظهره حاضراً . فاستأذنه رجال ظهورهم كانت في علو المدينة أن يستأني بهم حتى يذهبوا إلى ظهورهم , فأبى . ولم يكن عزمهم على اللقاء , ولا أعدوا له عدة , ولا تأهبوا له أهبة . ولكن جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد " .

وكان أبو سفيان - حين دنا من الحجاز - يتحسس الأخبار , ويسأل من لقي من الركبان , تخوفاً على أمر الناس [ أي على أموالهم التي معه في القافلة ] حتى أصاب خبراً من بعض الركبان:أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك . فحذر عند ذلك . فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري , فبعثه إلى مكة , وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم , ويخبرهم أن محمداً قد عرض لنا في أصحابه . فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة .

قال المقريزي في "إمتاع الأسماع":فلم يرع أهل مكة إلا وضمضم يقول:يا معشر قريش , يا آل لؤي ابن غالب , اللطيمة [ وهي العير التي تحمل الطيب والمسك والثياب وليس فيما تحمله طعام يؤكل ] قد عرض لها محمد في أصحابه . الغوث الغوث . والله ما أرى أن تدركوها ! وقد جدّع أذني بعيره , وشق قميصه وحول رحله . فلم تملك قريش من أمرها شيئاً حتى نفروا على الصعب والذلول , وتجهزوا في ثلاثة أيام . وقيل في يومين . وأعان قويهم ضعيفهم . وقام سهيل بن عمرو , وزمعة بن الأسود , وطعيمة بن عدي , وحنظلة بن أبي سفيان , وعمرو بن أبي سفيان , يحضون الناس على الخروج . فقال سهيل:يا آل غالب , أتاركون أنتم محمداً والصباة [ أي المرتدين , يقصد المسلمين ! ] من أهل يثرب يأخذون عيراتكم وأمواكم ? من أراد مالاً فهذا مال , ومن أراد قوة فهذه قوة . فمدحه أمية بن أبي الصلت بأبيات ! ومشى نوفل بن معاوية الديلي إلى أهل القوة من قريش فكلمهم في بذل النفقة والحُملان [ أي ما يحمل عليه من الدواب , يقال فيما يكون هبة خاصة ] لمن خرج . فقال عبد الله بن أبي ربيعة:هذه خمسمائة دينار فضعها حيث رأيت . وأخذ من حويطب بن عبد العزى مائتي دينار وثلاث مائة دينار قوى بها في السلاح والظهر , وحمل طعيمة بن عدي على عشرين بعيراً , وقواهم وخلفهم في أهلهم بمعونة . وكان لا يتخلف أحداً من قريش إلا بعث مكانه بعيثا . ومشوا إلى أبي لهب فأبى أن يخرج أو يبعث أحداً , ويقال:إنه بعث مكانه العاصي , ابن هشام بن المغيرة - وكان له عليه دين - فقال:اخرج , وديني لك . فخرج عنه ! . . . وأخذ عداس [ وهو الغلام النصراني الذي أرسله عتبة وشيبة ابنا ربيعة بقطف من العنب لرسول الله [ ص ] يوم خرج إلى الطائف فرده أهله رداً قبيحا , وأتبعوه السفهاء والصبية يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين , فلجأ منهم إلى بستان عتبة وشيبة . وقد وقع في نفس عداس ما وقع من أمر رسول الله [ ص ] , فأكب على يديه وقدميه يقبلهما ! ] يخذل شيبةوعتبة ابني ربيعة عن الخروج , والعاص بن منبه بن الحجاج . وأبي أمية بن خلف أن يخرج , فأتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل فعنفاه . فقال ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي ! فابتاعوا له جملاً بثلاث مائة درهم من نعم بني قشير , فغنمه المسلمون ! . . وما كان أحد منهم أكره للخروج من الحارث بن عامر . ورأى ضمضم بن عمرو أن وادي مكة يسيل دماً من أسفله وأعلاه . ورأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤياها [ وفيها نذير لقريش بالقتل والدم في كل بيت ] . . . فكره أهل الرأي المسير , ومشى بعضهم إلى بعض , فكان من أبطئهم عن ذلك الحارث بن عامر , وأمية بن خلف , وعتبة وشيبة ابنا ربيعة , وحكيم بن حزام , وأبو البختري [ ابن هشام ] وعلي بن أمية بن خلف , والعاص بن منبه ; حتى بكتهم أبو جهل , وأعانه عقبة بن أبي معيط , والنضر بن الحارث بن كلدة , فاجمعوا المسير . . وخرجت قريش بالقيان والدفاف يغنين في كل منهل , وينحرون الجزر , وهم تسعمائة وخمسون مقاتلاً . . وقادوا مائة فرس , عليها مائة دارع سوى دروع المشاة . وكانت إبلهم سبعمائة بعير . وهم كما ذكر الله تعالى عنهم بقوله:(ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس , ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط). . [ الأنفال:47 ] .

وأقبلوا في تجمل عظيم وحنق زائد على رسول الله [ ص ] وأصحابه , لما يريدون من أخذ عيرهم , وقد أصابوا من قبل عمرو بن الحضرمي والعير التي كانت معه [ في سرية عبد الله بن جحش ] . . وأقبل أبو سفيان بالعير ومعها سبعون رجلاً [ في رواية ابن إسحاق ثلاثون رجلاً ] منهم مخرمة بن نوفل , وعمرو ابن العاص , فكانت عيرهم ألف بعير تحمل المال . وقد خافوا خوفاً شديداً حين دنوا من المدينة , واستبطأوا ضمضم بن عمرو والنفير [ الذين نفروا بن قريش ليمنعوا عيرهم ] . . فأصبح أبو سفيان ببدر وقد تقدم العير وهو خائف من الرصد . فضرب وجه عيره , فساحل بها [ أي اتجه إلى ساحل البحر بعيداً عن طريق المدينة ] وترك بدراً يساراً , وانطلق سريعاً . . وأقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل . يطعمون الطعام من أتاهم وينحرون الجزر . . وأتاهم قيس بن امرئ القيس من أبي سفيان يأمرهم بالرجوع , ويخبرهم أن قد نجت عيرهم . فلا تجزروا أنفسكم أهل يثرب [ يعني لا تعرضوا أنفسكم لأن يذبحكم أهل يثرب ] فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك . إنما خرجتم لتمنعوا العير وأموالكم , وقد نجاها الله ! فعالج قريشاً فأبت الرجوع [ من الجحفة ] . وقال أبو جهل:لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً , فنقيم ثلاثاً , ننحر الجزر , ونطعم الطعام , ونشرب الخمر , وتعزف القيان علينا ; فلن تزال العرب تهابنا أبداً . . وعاد قيس إلى أبي سفيان , فأخبره بمضى قريش . فقال:واقوماه ! هذا عمل عمرو بن هشام [ يعني أبا جهل ] كره أن يرجع لأنه ترأس على الناس فبغى , والبغي منقصة وشؤم . إن أصاب محمد النفير ذللنا . .

قال ابن إسحاق:وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي , وكان حليفاً لبني زهرة , وهم بالجحفة يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم , وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل . وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فاجعلوا بي جبنها , وارجعوا , فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة . لا ما يقول هذا [ يعني أبا جهل ] فرجعوا , فلم يشهدها زهري واحد . . ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس , إلا بني عدي ابن كعب , لم يخرج منهم رجل واحد [ في إمتاع الأسماع أن طعمة بن عدي حمل على عشرين بعيراً , وقواهم وخلفهم في أهلهم بمعونة ] . . وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة . فقالوا:والله لقد عرفنا يا بني هاشم , وإن خرجتم معنا , إن هواكم لمع محمد . فرجع طالب إلى مكة مع من رجع !

قال ابن إسحاق:وخرج رسول الله [ ص ] في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه .

وكانت إبل أصحاب رسول الله [ ص ] يومئذ سبعين بعيراً فاعتقبوها [ أي كانوا يركبونها بالتعاقب ] فكان رسول الله [ ص ] وعلي بن أبي طالب , ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيراً . وكان حمزة بن عبد المطلب , وزيد بن حارثة , وأبو كبشة وأنسة موليا رسول الله [ ص ] يعتقبون بعيراً . وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيراً . .

قال المقريزي في إمتاع الأسماع:

ومضى رسول الله [ ص ] حتى إذا كان دون بدر أتاه الخبر بمسير قريش . فاستشار الناس , فقام أبو بكر - رضي الله عنه - فقال فأحسن . ثم قام عمر فقال فأحسن . ثم قال:يا رسول الله , إنها والله قريش وعزها , والله ما ذلت منذ عزت , والله ما آمنت منذ كفرت , والله لا تسلم عزها أبداً , ولتقاتلنك , فأتهب لذلك أهبته , وأعد لذلك عدته . ثم قام المقداد بن عمرو فقال:يا رسول الله , امض لأمر الله , فنحن معك , والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا , إنا معكما مقاتلون . والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا [ وبرك الغماد موضع بأقصى اليمن ] فقال له رسول الله [ ص ] خيراً ودعا له بخير . . ثم قال:" أشيروا علي أيها الناس " . وإنما يريد الأنصار . . وكان يظنهم لا ينصرونه إلا في الدار , لأنهم شرطوا له أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم [ وذلك في بيعة العقبة الثانية التي هاجر على أساسها رسول الله [ ص ] إلى المدينة ] فقام سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال:أنا أجيب عن الأنصار , كأنك يا رسول الله تريدنا ! قال:" أجل " . قال:إنك عسى أن تكون قد خرجت عن أمر قد أوحي إليك في غيره [ يعني كما يبدو أنك ربما تكون قد خرجت لأمر ثم أوحي إليك في غيره إذ كان قد خرج للعير ثم عرض النفير ] , فإنا قد آمنا بك , وصدقناك , وشهدنا أن ما جئت به حق , فأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة . فامض يا نبي الله لما أردت . فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل . وصل من شئت , واقطع من شئت , وخذ من أموالنا ما شئت ; وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت . والذي نفسي بيده ما سلكت هذا الطريق قط , وما لي بها من علم ; وما نكره أن نلقى عدونا غداً , وإنا لصبر عند الحرب , صدق عند اللقاء , لعل الله يريك منا بعض ما تقر به عيناك . . وفي رواية أن سعد بن معاذ قال:إنا خلفنا من قومنا قوماً ما نحن بأشد حباً لك منهم , ولا أطوع لك منهم ; ولكن إنما ظنوا أنها العير . نبني لك عريشاً فتكون فيه , ونعد عندك رواحلك , ثم نلقى عدونا , فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببناه , وإن تكن الأخرى جلست على رواحلك فلحقت من وراءنا . . فقال له النبي [ ص ] خيراً . وقال:" أو يقضي الله خيراً من ذلك يا سعد " . فلما فرغ سعد من المشورة قال رسول الله [ ص ]:" سيروا على بركة الله , فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين . والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم " . . فعلم القوم أنهم إنما يلاقون القتال وأن العير تفلت ; ورجوا النصر لقول النبي [ ص ] ومن يومئذ عقد رسول الله [ ص ] الألوية . وهي ثلاثة , لواء يحمله مصعب بن عمير . ورايتان سوداوان . إحداهما مع علي , والأخرى مع رجل من الأنصار [ هو سعد بن معاذ ] وأظهر السلاح . . وكان خرج من المدينة على غير لواء معقود .

. . . ونزل رسول الله [ ص ] أدنى بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشر مضت من رمضان ,فبعث علياً والزبير وسعد بن أبي وقاص وبسبس بن عمرو رضي الله عنهم يتحسسون على الماء . وأشار لهم إلى ظريب [ تصغير ظرب وهو الجبل الصغير المنبسط في حجارة دقاق ] وقال:أرجو أن تجدوا الخبر عند هذا القليب الذي يلي الظرب . فوجدوا على تلك القليب روايا قريش فيها سقاؤهم [ الروايا من الإبل حوامل الماء وسُقاء جمع سَقاء ] فأفلت عامتهم - وفيهم عجير - فجاء قريشاً , فقال:يا آل غالب , هذا ابن أبي كبشة [ يعني النبي [ ص ] ] وأصحابه قد أخذوا سقاءكم . فماج العسكر وكرهوا ذلك , والسماء تمطر عليهم . وأخذ تلك الليلة أبو يسار غلام عبيدة بن سعيد بن العاص , وأسلم غلام منبه بن الحجاج , وأبو رافع غلام أمية بن خلف , فأتي بهم النبي [ ص ] وهو يصلي . فقالوا:نحن سقاء قريش بعثونا نسقيهم من الماء . فكره القوم خبرهم فضربوهم . فقالوا:نحن لأبي سفيان , ونحن في العير ! فأمسكوا عنهم ! فسلم رسول الله [ ص ] وقال:" إن صدقوكم ضربتموهم , وإن كذبوكم تركتموهم ! " ثم أقبل عليهم يسألهم , فأخبروه أن قريشاً خلف هذا الكثيب , وأنهم ينحرون يوماً عشراً ويوماً تسعاً , وأعلموه بمن خرج من مكة . فقال [ ص ]:القوم ما بين الألف والتسعمائة . وقال:" هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها " .

واستشار أصحابه في المنزل , فقال الحباب بن المنذر بن الجموح . . انطلق بنا إلى أدنى بئر إلى القوم . فإني عالم بها وبقلبها . بها قليب [ أي بئر قديمة لا يعلم من حفرها ] قد عرفت عذوبة مائه , وماء كثير لا ينزح . ثم نبني عليها حوضاً , ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل ; ونعور ما سواها من القلب . فقال:يا حباب أشرت بالرأي [ وفي رواية ابن هشام عن ابن إسحاق أن الحباب بن المنذر قال:يا رسول الله , هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ? أم هو الرأي والحرب والمكيدة ? قال:" بل هو الرأي والحرب والمكيدة " قال:يا رسول الله , هذا ليس بمنزل . . ثم أشار بما أشار ] ونهض رسول الله [ ص ] فنزل على القليب ببدر . وبات تلك الليلة يصلي إلى جذم شجرة [ أي ما بقي من جذعها بعد قطع أعلاه ] . وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان . وفعل ما أشار به الحباب . . وبعث الله السماء , فأصاب المسلمين ما لبد الأرض ولم يمنع من السير . وأصاب قريشاً من ذلك ما لم يقدروا أن يرتحلوا منه . وإنما بينهم قوز من رمل . وكان مجيء المطر نعمة وقوة للمؤمنين , وبلاء ونقمة على المشركين . وأصاب المسلمين تلك الليلة نعاس ألقي عليهم . فناموا , حتى إن أحدهم تكون ذقنه بين ثدييه وما يشعر حتى يقع على جنبه . واحتلم رفاعة ابن رافع بن مالك حتى اغتسل آخر الليل . . وبعث [ ص ] عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما - فأطافا بالقوم , ثم رجعا فأخبراه أن القوم مذعورون , وأن السماء تسح عليهم .

وبني لرسول الله [ ص ] لما نزل على القليب - عريش من جريد . وقام سعد بن معاذ على بابه متوشح السيف . ومشى رسول الله [ ص ] على موضع الوقعة , وعرض على أصحابه مصارع رؤوس الكفر من قريش مصرعاً مصرعاً , يقول:هذا مصرع فلان , وهذا مصرع فلان . . فما عدا واحد منهم مضجعه الذي حدّ له الرسول . وعدل [ ص ] الصفوف . ورجع إلى العريش فدخل [ ص ] وأبو بكر رضي الله عنه .

قال ابن إسحاق:وقد ارتحلت قريش حتى أصبحت فأقبلت . فلما رآها رسول الله [ ص ] - تصوّب من العقنقل [ وهو الكثيب الذي جاءوا منه ] إلى الوادي , قال:" اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك , وتكذب رسولك , اللهم فنصرك الذي وعدتني , اللهم أحنِهم الغداة " . وقد قال رسولالله [ ص ] وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر , فقال:" إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر , إن يطيعوه يرشدوا " .

"وقد كان خُفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري - أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري - بعث إلى قريش - حين مروا به - ابناً له بجزائر [ أي ذبائح ] أهداها لهم . وقال:إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا . قال:فأرسلوا إليه مع ابنه أن وصلتك رحم . قد قضيت الذي عليك . فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم , ولئن كنا إنما نقاتل الله , كما يزعم محمد , فما لأحد بالله من طاقة .

فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله [ ص ] فيهم حكيم ابن حزام . فقال رسول الله [ ص ] " دعوهم " . فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل . إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل . ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه . فكان إذا اجتهد في يمينه قال:لا والذي نجاني من يوم بدر !

قال ابن إسحاق:وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم , عن أشياخ من الأنصار قالوا:لما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي , فقالوا:احزر لنا أصحاب محمد [ [ ص ] ] قال:فاستجال بفرسه حول العسكر ! ثم رجع إليهم , فقال:ثلاث مائة رجل , يزيدون قليلاً أو ينقصون . ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد . قال:فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئاً , فرجع إليهم , فقال:ما وجدت شيئاً , ولكني قد رأيت يا معشر قريش , البلايا تحمل المنايا . نواضح يثرب تحمل الموت الناقع . قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم , والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم , فإذا أصابوا منكم أعدادهم , فما خير العيش بعد ذلك ? فروا رأيكم !

فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس , فأتى عتبة بن ربيعة , فقال:يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها , هل لك إلى ألا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر ? قال:وما ذاك يا حكيم ? قال:ترجع بالناس , وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي . قال:قد فعلت , أنت عليّ بذلك , إنما هو حليفي فعليّ عقله [ أي دية أخيه الذي قتل في سرية عبد الله بن جحش كما سبق ] وما أصيب من ماله . فأت ابن الحنظلية فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره . يعني أبا جهل بن هشام . ثم قام عتبة بن ربيعة خطيباً فقال:يا معشر قريش , إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً . والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه , قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته . فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب , فإن أصابوه فذاك الذي أردتم , وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرّضوا منه ما تريدون .

قال حكيم:فانطلقت حتى جئت أبا جهل , فوجدته قد نثل درعاً له من جرابها فهو يهيئها . فقلت له:يا أبا الحكم , إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا , للذي قال , فقال:انتفخ والله سَحره [ يعني انتفخت رئته من الخوف ! ] حين رأى محمداً وأصحابه . كلا ! والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد , وما بعتبة ما قال , ولكنه قد رأى أن محمداً وأصحابه أكلة جزور , وفيهم ابنه [ يعني أبا حذيفة رضي الله عنه وكان مسلماً مع المسلمين ] فقد تخوفكم عليه !

ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي , فقال:هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس . وقد رأيت ثأرك بعينك , فقم فانشد خفرتك [ أي عهدك ] ومقتل أخيك ! فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف , ثم صرخ:واعمراه ! فحميت الحرب , وحقب أمر الناس [ أي اشتد ] واستوسقوا على ما هم عليه من الشر . فأفسد على الناسالرأي الذي دعاهم إليه عتبة . فلما بلغ عتبة قول أبي جهل:انتفخ والله سحره . قال:سيعلم مصفر استه [ يريد أن يشبهه في الجبن كالرجل الذي يتأنث ! ] من انتفخ سحره ? أنا أم هو !

قال ابن إسحاق:وقد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي , وكان رجلاً شرساً سيئ الخلق , فقال:أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه . فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - فلما التقيا ضربه حمزة فأطنّ قدمه [ أي أطارها ] بنصف ساقه . وهو دون الحوض . فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه ; ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد - زعم - أن يبر يمينه , واتبعه حمزة , فضربه حتى قتله في الحوض !

ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة , بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة , حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة , فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة , وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء , ورجل آخر يقال:هو عبد الله بن رواحة . فقالوا من أنتم ? فقالوا:رهط من الأنصار , قالوا:ما لنا بكم من حاجة [ وقال ابن إسحاق:إن عتبة قال للفتية من الأنصار حين انتسبوا إليه:أكفاء كرام , إنما نريد قومنا ] ثم نادى مناديهم:يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا . فقال رسول الله [ ص ] . " قم يا عبيدة ابن الحارث , قم يا حمزة , قم يا علي " . فلما قاموا ودنوا منهم قالوا:من أنتم ? قال عبيدة:عبيدة ? وقال حمزة:حمزة ! وقال علي:علي ! قالوا . نعم أكفاء كرام ! فبارز عبيدة , وكان أسن القوم , عتبة ابن ربيعة , وبارز حمزة شيبة بن ربيعة , وبارز علي الوليد بن عتبة . فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله , وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله . واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه [ أي جرحه جرحاً لا يملك معه الحركة ] وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه [ أي أجهزا عليه ] واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه .

قال ابن إسحاق:ثم تزاحف الناس , ودنا بعضهم من بعض . وقد أمر رسول الله [ ص ] أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم . قال:" إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل " . . ثم عدل رسول الله [ ص ] الصفوف ورجع إلى العريش , فدخله ومعه فيه أبو بكر ليس معه فيه غيره . ورسول الله [ ص ] يناشد ربه ما وعده من النصر , ويقول فيما يقول:" اللهم إن نهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد " وأبو بكر يقول:يا نبي الله بعض مناشدتك ربك , فإن الله منجز لك ما وعدك .

وفي إمتاع الأسماع للمقريزي:أن عبد الله بن رواحة قال لرسول الله [ ص ] يا رسول الله إني أشير عليك - ورسول الله أعظم وأعلم من أن يشار عليه - إن الله أجل وأعظم من أن ينشد وعده ! فقال رسول الله [ ص ] " يا ابن رواحة , ألا أنشد الله وعده ? إن الله لا يخلف الميعاد " .

قال ابن إسحاق:وقد خفق رسول الله [ ص ] خفقة وهو في العريش , ثم انتبه , فقال:" أبشر يا أبا بكر , أتاك نصر الله . هذا جبريل آخذاً بعنان فرس يقوده , على ثناياه النقع " [ يعني الغبار ] .

وقد رمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل , فكان أول قتيل من المسلمين رحمه الله . ثم رمي حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار - وهو يشرب من الحوض - بسهم , فأصاب نحره , فقتل رحمه الله .

ثم خرج رسول الله [ ص ] إلى الناس فحرضهم وقال:" والذي نفس محمد بيده , لا يقاتلهم اليوم رجل , فيقتل , صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر , إلا أدخله الله الجنة " . فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة , وفي يده ثمرات يأكلهن:بخ بخ [ كلمة تقال للإعجاب ] أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أنيقتلني هؤلاء ? ثم قذف التمرات من يده , وأخذ سيفه , فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله تعالى .

قال ابن إسحاق:وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة , أن عوف بن الحارث - وهو ابن عفراء - قال:يا رسول الله , ما يضحك الرب من عبده ? قال:" غمسه يده في العدو حاسراً " فنزع درعاً كانت عليه , فقذفها , ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله .

قال ابن إسحاق:وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري , عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري , حليف بني زهرة , أنه حدثه , أنه لما التقى الناس , ودنا بعضهم من بعض , قال أبو جهل بن هشام:اللهم , أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف , فأحِنه الغداة ! فكان هو المستفتح .

قال ابن إسحاق:ثم إن رسول الله [ ص ] أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشاً , ثم قال:" شاهت الوجوه ! " ثم نفحهم بها . وأمر أصحابه فقال:" شدوا " فكانت الهزيمة . فقتل الله تعالى من قتل من صناديد قريش , وأسر من أسر من أشرافهم . .

فلما وضع القوم أيديهم يأسرون , ورسول الله [ ص ] في العريش , وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله [ ص ] متوشحاً السيف , في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله [ ص ] يخافون عليه كرّة العدو ; ورأى رسول الله [ ص ] فيما ذكر لي - في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس ; فقال له رسول الله [ ص ]:" والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم ! " قال:أجل والله يا رسول الله ; كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك . فكان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال !

قال ابن إسحاق:وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد ; عن بعض أهله ; عن ابن عباس رضي الله عنهما . أن النبي [ ص ] قال لأصحابه يومئذ:" إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا , فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله , ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله , ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله [ ص ] فلا يقتله , فإنه إنما أخرج مستكرهاً " قال:فقال أبو حذيفة [ ابن عتبة بن ربيعة ]:أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس ?! والله لئن لقيته لألحمنه السيف ! قال:فبلغت رسول الله [ ص ] فقال لعمر بن الخطاب:" يا أبا حفص " قال عمر:والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله [ ص ] بأبي حفص - " أيضرب وجه عم رسول الله [ ص ] بالسيف ? " فقال عمر:يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف ! فوالله لقد نافق ! فكان أبو حذيفة يقول:ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ; ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة - فقتل يوم اليمامة [ في حروب الردة ] شهيداً .

قال ابن هشام:وإنما نهى رسول الله [ ص ] عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عن رسول الله [ ص ] وهو بمكة , وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه , وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب . . . [ وقد قتل لأنه رفض أن يستأسر ] . . .

قال ابن إسحاق:حدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه قال:كان أمية بن خلف لي صديقاً بمكة . وكان اسمي عبد عمرو , فتسميت حين أسلمت عبدالرحمن ونحن بمكة . فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول:يا عبد عمرو , أرغبت عن اسم سماكه أبواك ? فأقول:نعم ! فيقول:فإني لا أعرف الرحمن ,فاجعل بيني وبينك شيئا ادعوك به , أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول , وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف ! قال فكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه . قال:فقلت له:يا أبا علي , اجعل ما شئت . قال:فأنت عبدالإله . قال:قلت:نعم . قال:فكنت إذا مررت به قال:يا عبد الإله , فأجيبه , فأتحدث معه . حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه علي ابن أمية آخذ بيده ; ومعي أدراع لي قد استلبتها فأنا أحملها . فلما رآني قال لي:يا عبدعمرو , فلم أجبه . فقال:يا عبد الإله , فقلت:نعم , قال:هل لك فيّ ? فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك !:قال:قلت:نعم ! ها الله إذن . قال:فطرحت الأدراع من يدي , وأخذت بيده ويد ابنه [ يعني أسيرين ] وهو يقول:ما رأيت كاليوم قط ! أما لكم حاجة في اللبن ? [ يعني أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن ! ] ثم خرجت أمشي بهما .

قال ابن إسحاق:حدثني عبدالواحد بن أبي عون , عن سعيد بن إبراهيم , عن أبيه , عن عبدالرحمن ابن عوف - رضي الله عنه - قال:قال لي أمية بن خلف , وأنا بينه وبين ابنه , آخذ بأيديهما:يا عبد الإله , من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره ? قال . قلت:حمزة بن عبدالمطلب . قال:ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل . . قال عبدالرحمن:فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي , وكان هو الذي يعذب بلالاً بمكة على ترك الإسلام , فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت , فيضجعه على ظهره , ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره , ثم يقول:لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد , فيقول بلال:أحد . أحد . قال:فلما رآه قال:رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا ! قال:قلت:أي بلال , أبأسيري ? قال:لا نجوت إن نجا ! قال:قلت:أتسمع يا ابن السوداء ? قال:لا نجوت إن نجا ! قال:ثم صرخ بأعلى صوته:يا أنصار الله , رأس الكفر أمية بن خلف , لا نجوت إن نجا ! قالوا:فأحاطوا بنا , حتى جعلونا في مثل المسكة [ أي السوار من عاج ] وأنا أذب عنه قال:فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع , وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط . قال:فقلت:انج بنفسك ولا نجاء بك . فوالله ما أغني عنك شيئاً . قال:فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما . . فكان عبدالرحمن يقول:يرحم الله بلالاً , ذهبت أدراعي . وفجعني بأسيري !

قال ابن إسحاق:فلما فرغ رسول الله [ ص ] من عدوه أمر بأبي جهل بن هشام أن يلتمس في القتلى , وكان أول من لقي ابا جهل - كما حدثني ثور بن زيد , عن عكرمة , عن ابن عباس , وعبدالله بن أبي بكر أيضاً ; قد حدثني ذلك - قالا:قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة:سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة [ أي الشجر الملتف ] وهم يقولون:أبو الحكم لا يخلص إليه , قال:فلما سمعتها جعلته من شأني , فصمدت نحوه , فلما أمكنني حملت عليه , فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه , فوالله ما شبهتها - حين طاحت - إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها , قال:وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي . فتعلقت بجلدة من جنبي , وأجهضني القتال عنه , فلقد قاتلت عامة يومي , وإني لأسحبها خلفي , فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها .

ثم مر بأبي جهل , وهو عقير , معوذ ابن عفراء , فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق , وقاتل معوذ حتى قتل , فمر عبدالله بن مسعود بأبي جهل - حين أمر رسول الله [ ص ] أن يلتمس في القتلى - وقد قال لهم رسول الله [ ص ] فيما بلغني:" انظروا إن خفي عليكم في القتلى إلى أثر جرح في ركبته , فإني ازدحمت يوماً أنا وهو على مأدبة لعبدالله بن جدعان , ونحن غلامان , وكنت أشف منه بيسير , فدفعته , فوقع على ركبتيه , فجحش في إحداهما جحشاً لم يزل أثره به " قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه . فوجدتهبآخر رمق , فعرفته فوضعت رجلي على عنقه , قال وقد كان خبث بي مرة بمكة فآذاني ولكزني [ أي قبض عليّ ولزمني ] ثم قلت له:هل أخزاك الله يا عدو الله ? قال:وبماذا أخزاني ? أأعمد من رجل قتلتموه [ يريد أكبر من رجل قتلتموه ? ] أخبرني لمن الدائرة اليوم ? قال:قلت لله ورسوله .

قال ابن إسحاق:وزعم رجال من بني مخزوم أن ابن مسعود كان يقول:قال لي:لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم . قال:ثم احتززت رأسه ; ثم جئت به رسول الله [ ص ] فقلت:يا رسول الله , هذا رأس عدو الله أبي جهل . قال:فقال رسول الله [ ص ]:" الله الذي لا إله غيره " ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله [ ص ] فحمد الله .

قال ابن هشام:وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي , أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لسعيد بن العاص - ومر به - إني أراك كأن في نفسك شيئاً . أراك تظن أني قتلت أباك ! إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله ; ولكني قتلت خالي العاص بن هشام ابن المغيرة . فأما أبوك فإني مررت به , وهو يبحث بحث الثور بروقه [ أي بقرنه ] فحدت عنه . وقصد له بن عمه علي فقتله !

قال ابن إسحاق:وحدثني يزيد بن رومان , عن عروة بن الزبير , عن عائشة رضي الله عنها . قالت:لما أمر رسول الله [ ص ] بالقتلى أن يطرحوا في القليب طرحوا فيه , إلا ما كان من أمية بن خلف . فإنه انتفخ في درعه فملأها , فذهبوا ليحركوه . فتزايل لحمه , فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة , فلما ألقاهم في القليب , وقف عليهم رسول الله [ ص ] فقال:" يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً , فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً " قالت:فقال له أصحابه:يا رسول الله , أتكلم قوماً موتي ? فقال لهم:" لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق " قالت عائشة:والناس يقولون: لقد سمعوا ما قلت لهم وإنما قال لهم رسول الله [ ص ]:" لقد علموا " .

قال ابن إسحاق:ولما أمر رسول الله [ ص ] بهم أن يلقوا في القليب , أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب , فنظر رسول الله [ ص ] - فيما بلغني - في وجه أبي حذيفة بن عتبة , فإذا هو كئيب قد تغير . فقال:" يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء " أو كما قال [ ص ] فقال:لا والله يا رسول الله , ما شككت في أبي ولا في مصرعه , ولكنني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً , فكنت أرجو أن يهديهه ذلك إلى الإسلام , فلما رأيت ما أصابه , وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له , أحزنني ذلك . فدعا له رسول الله [ ص ] بخير , وقال له خيراً . .

ثم إن رسول الله [ ص ] أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع , فاختلف المسلمون فيه . فقال من جمعه:هو لنا . وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه:والله لولا نحن ما أصبتموه , لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم . وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله [ ص ] مخافة أن يخالف إليه العدو:والله ما أنتم بأحق به منا , لقد رأينا المتاع حين لم يكن دونه ما يمنعه , ولكنا خفنا على رسول الله [ ص ] كرة العدو , فقمنا دونه , فما أنتم بأحق به منا .

قال ابن إسحاق:وحدثني عبدالرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا عن سليمان بن موسى , عن مكحول , عن أبي أمامة الباهلي , قال سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال . فقال فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل , وساءت فيه أخلاقنا , فنزعه الله من أيدينا , فجعله إلى رسول الله [ ص ]فقسمه رسول الله [ ص ] بين المسلمين عن بواء , يقول:على السواء .

قال ابن إسحاق:وحدثني نبيه بن وهب أخو بني عبد الدار أن رسول الله [ ص ] حين أقبل بالأسارى , فرقهم في أصحابه , وقال ":استوصوا بالأسارى خيراً " . فكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم , أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه , في الأسارى . قال:فقال أبو عزيز:مر بي أخي مصعب بن عمير , ورجل من الأنصار يأسرني , فقال:شد يدك به , فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك . قال:وكنت في رهط من الأنصار - حين أقبلوا بي من بدر - فكانوا إذا قدموا غداءهم أو عشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر , لوصية رسول الله [ ص ] إياهم بنا , ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها . قال:فأستحيي فأردها على أحدهم , فيردها علي ما يمسها .

قال ابن هشام:وكان أبو عزيز صاحب لواء المشركين ببدر , بعد النضر بن الحارث , فلما قال أخوه مصعب ابن عمير لأبي اليسر - وهو الذي أسره - ما قال , قال له أبو عزيز:يا أخي , هذه وصاتك بي ? فقال له مصعب:إنه أخي دونك . . فسألت أمه عن أغلى ما فدي به قرشي , فقيل لها:أربعة آلاف درهم , فبعثت بأربعة آلاف درهم , ففدته بها .

قال ابن إسحاق:ثم بعثت قريش في فداء الأسرى .

في هذه الغزوة التي أجملنا عرضها بقدر المستطاع , نزلت سورة الأنفال . . نزلت تعرض وقائع الغزوة الظاهرة , وتعرض وراءها فعل القدرة المدبرة , وتكشف عن قدر الله وتدبيره في وقائع الغزوة , وفيما وراءها من خط سير التاريخ البشري كله ; وتحدث عن هذا كله بلغة القرآن الفريدة وبأسلوب القرآن المعجز . . وسيأتي تفصيل هذه المعاني في ثنايا استعراض النصوص القرآنية . . فأما الآن فنكتفي باستعراض الخطوط الأساسية في السورة:

إن هنالك حادثاً بعينه في الغزوة يلقي ضوءاً على خط سيرها . ذلك هو ما رواه ابن إسحاق - عن عبادة ابن الصامت - رضي الله عنه , قال:

"فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل , وساءت فيه أخلاقنا , فنزعه الله من أيدينا , فجعله إلى رسول الله [ ص ] فقسمه رسول الله [ ص ] - عن بواء [ يقول:على السواء ] .

هذا الحادث يلقي ضوءا على افتتاح السورة وعلى خط سيرها كذلك:

لقد اختلفوا على الغنائم القليلة في الوقعة التي جعلها الله فرقاناً في مجرى التاريخ البشري إلى يوم القيامة !

ولقد أراد الله - سبحانه - أن يعلمهم , وأن يعلم البشر كلهم من بعدهم أموراً عظاماً . . .

أراد أن يعلمهم ابتداء أن أمر هذه الوقعة أكبر كثيراً من أمر الغنائم التي يختلفون عليها . فسمى يومها: (يوم الفرقان , يوم التقى الجمعان). .

وأراد أن يعلمهم أن هذا الأمر العظيم إنما تم بتدبير الله وقدره , في كل خطوة وفي كل حركة , ليقضي من ورائه أمراً أراده , فلم يكن لهم في هذا النصر وما وراءه من عظائم الأمور يد ولا تدبير , وسواء غنائمه الصغيرة وآثاره الكبيرة , فكلها من فعل الله وتدبيره . إنما أبلاهم فيه بلاء حسناً من فضله !

وأراد أن يريهم مدى الفرق بين ما أرادوه هم لأنفسهم من الظفر بالعير ; وما أراده الله لهم , وللبشريةكلها من ورائهم من إفلات العير , ولقاء النفير . ليروا على مد البصر مدى ما بين إرادتهم بأنفسهم وإرادة الله بهم ولهم من فرق كبير !

لقد بدأت السورة بتسجيل سؤالهم عن الأنفال وبيان حكم الله فيها وردها إلى الله والرسول ودعوتهم إلى تقوى الله , وإصلاح ذات بينهم - بعدما ساءت أخلاقهم في النفل كما يقول عبادة بن الصامت - ودعوتهم إلى طاعة الله وطاعة الرسول , وتذكيرهم بإيمانهم وهذا مقتضاه . ورسم للمؤمنين صورة موحية تجف لها القلوب:(يسألونك عن الأنفال . قل:الأنفال لله والرسول . فاتقوا الله , وأصلحوا ذات بينكم , وأطيعوا الله ورسوله , إن كنتم مؤمنين . إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم , وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقاً , لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم). .

ثم جعل يذكرهم بأمرهم وتدبيرهم لأنفسهم وتدبير الله لهم , ومدى ما يرونه من واقع الأرض ومدى قدرة الله من ورائه ومن ورائهم: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق , وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعد ما تبين , كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم , وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم , ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون . .

ثم ذكرهم بما أمدهم به من العون , وما يسره لهم من النصر , وما قدره لهم بفضله من الأجر:(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى , ولتطمئن به قلوبكم , وما النصر إلا من عند الله , إن الله عزيز حكيم . إذ يغشيكم النعاس أمنة منه , وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به , ويذهب عنكم رجز الشيطان , وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام . إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم , فثبتوا الذين آمنوا , سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب , فاضربوا فوق الأعناق , واضربوا منهم كل بنان . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله , ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب . ذلكم فذوقوه , وأن للكافرين عذاب النار).

وهكذا يمضي سياق السورة في هذا المجال ; يسجل أن المعركة بجملتها من صنع الله وتدبيره بقيادته وتوجيهه . بعونه ومدده . بفعله وقدره . له وفي سبيله . . ومن ثم تجريد المقاتلين ابتداء من الأنفال وتقرير أنها لله وللرسول , حتى إذا ردها الله عليهم كان ذلك مَناً منه وفضلاً . وكذلك يجردهم من كل مطمع فيها ومن كل مغنم , ليكون جهادهم في سبيله خالصاً له وحده . . فترد أمثال هذه النصوص:

(فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم , وما رميت - إذ رميت - ولكن الله رمى , وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً , إن الله سميع عليم . ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين).

(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس , فآواكم وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون). .

(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . والله على كل شيء قدير . إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى , والركب أسفل منكم , ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد , ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً . ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة , وإن الله لسميع عليم . إذ يريكهم الله في منامكقليلاً , ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر , ولكن الله سلم , إنه عليم بذات الصدور . وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلاً , ويقللكم في أعينهم , ليقضي الله أمراً كان مفعولاً , وإلى الله ترجع الأمور). .

ولأن المعركة - كل معركة يخوضها المؤمنون - من صنع الله وتدبيره . بقيادته وتوجيهه . بعونه ومدده . بفعله وقدره . له وفي سبيله . تتكرر الدعوة في السورة إلى الثبات فيها , والمضي معها , والاستعداد لها , والاطمئنان إلى تولي الله فيها , والحذر من المعوقات عنها من فتنة الأموال والأولاد , والاستمساك بآدابها , وعدم الخروج لها بطراً ورئاء الناس . ويؤمر رسول الله [ ص ] بتحريض المؤمنين عليها . . وترد أمثال هذه النصوص في بيان هذه المعاني:

(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار . ومن يولهم يومئذ دبره - إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة - فقد باء بغضب من الله , ومأواه جهنم وبئس المصير). .

(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم , واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه , وأنه إليه تحشرون). .

(يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون . واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة , وأن الله عنده أجر عظيم).

(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون . وأطيعوا الله ورسوله , ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم , واصبروا إن الله مع الصابرين . ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس , ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط). .

(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم , وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم , وأنتم لا تظلمون). .

يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال , إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين , وإن يكن منكم مائة يغلبوا الفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون . . . .

وفي ذات الوقت الذي تتكرر الأوامر بالتثبيت في المعركة يتجه السياق إلى توضيح معالم العقيدة وتعميقها ورد كل أمر وكل حكم وكل توجيه إليها . فلا تبقى الأوامر معلقة في الفراغ , إنما ترتكز على ذلك الأصل الواضح الثابت العميق:

أ في مسألة الأنفال يردون إلى تقوى الله , والوجل عند ذكره , وتعلق الإيمان بطاعة الله وطاعة رسوله: يسألونك عن الأنفال . قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله , إن كنتم مؤمنين . إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم , وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون . . .الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً , لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم .

ب وفي خطة المعركة يردون إلى قدر الله وتدبيره , وتصريفه لمراحلها جميعاً: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى , والركب أسفل منكم , ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد , ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً . .).


ج وفي أحداثها ونتائجها يردون إلى قيادة الله لها , ومدده وعونه فيها: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم , وما رميت إذ رميت , ولكن الله رمى , وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً . . .). .

د وفي الأمر بالثبات فيها يردون إلى ما يريده الله لهم بها من حياة , وإلى قدرته على الحيلولة بينهم وبين قلوبهم , وإلى تكفله بنصر من يتوكل عليه:(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم , واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه , وأنه إليه تحشرون). .(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون). .

ه وفي تحديد الهدف من وراء المعركة يقرر: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). . (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض). .(وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم , وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين , ليحق الحق ويبطل الباطل , ولو كره المجرمون). .

و وفي تنظيم العلاقات في المجتمع المسلم وبينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى تبرز العقيدة قاعدة للتجمع وللتميز , وتجعل القيم العقيدية هي التي تقدم في الصف أو تؤخر: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض , والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا , وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر - إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق , والله بما تعملون بصير . والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ; إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم . والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله , إن الله بكل شيء عليم . .

ويبرز في سياق السورة بصفة خاصة - إلى جانب خط العقيدة - خط آخر هو خط الجهاد , وبيان قيمته الإيمانية والحركية . وتجريده كذلك من كل شائبة شخصية ; وإعطاؤه مبرراته الذاتية العليا التي ينطلق بها المجاهدون في ثقة وطمأنينة واستعلاء إلى آخر الزمان . . والسورة بجملتها تتضمن هذا الإيحاء . فنكتفي ببعض النصوص في هذا التعريف , وندع تفصيلها إلى موضعه عند مواجهة النصوص:

(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار . ومن