وائل قنديل :

 

من بين كل السفاحين الصهاينة، يحظى شيمون بيريز بمكانة خاصة لدى كاتب هذه السطور، ليس فقط لكونه الأكثر شراسة ووضاعة في قتل العرب، وإن منحوه لقب "حمامة سلام" في ما بعد، وإنما لأنه الوحيد من القتلة الذي رأيت جثث ضحاياه، بالعين المجرّدة، وكان وراء اختيار اسم طفلتي الأولى.

وصلت إلى قانا في الجنوب اللبناني، مبكّراً في أحد صباحات إبريل/ نيسان 1996 في أول تجربة صحافية لي في تغطية الحروب.. كان العمل لم ينته بعد في جمع أشلاء 106 شهداء، قتلهم رئيس الوزراء الصهيوني، داخل ملجأ تابع للأمم المتحدة، فرّوا إليه هرباً من قصفٍ مجنون شنّته الطائرات الإسرائيلية، في عدوان عناقيد الغضب.

لا تختلف ملامح قانا عن ملامح أية قرية مصرية، أو عربية زرتها، هكذا قلت لمجموعة من الزملاء اللبنانيين، الجرح واحد والألم واحد، فلماذا لا تكون طقوس الحزن واحدة؟

رأيت أنياب شيمون بيريز مغروسةً في تفاصيل الوجوه المكلومة من ذوي الشهداء، كان الجرح أعمق من كل ما قرأت عن جرائم العصابات الصهيونية، منذ هبطت على أرض فلسطين، وجدت كل المذابح التاريخية المدوّنة في الكتب ماثلة أمامي، بثاً حياً مباشراً في قانا، فاستقر شيمون بيريز في صدارة ترتيب المجرمين داخلي.

على أرضية الملعب الرياضي في مدينة صور، تجمع عشرات الآلاف من البشر في وداع الشهداء، وقفت أمام كل كفن، وصببت اللعنات على بيريز، القاتل الأول، والمجرم الأول في التاريخ الصهيوني الملطخ بالدم.

قبل مجزرة قانا، كانت هناك مذبحة سيارة الإسعاف في قرية المنصوري، وكان رأس أصغر الشهيدات، حنين عباس جحا، يتدلى من نافذة السيارة التي لم يمنع وجود علم الأمم المتحدة والصليب الأحمر عليها صاروخاً انطلق من مروحية إسرائيلية، تعقبت السيارة التي تقل الهاربين من القصف، قتل جميع من فيها، وبقيت صورة رأس حنين مغطىً بالدماء، تحاول النقر على زجاج ضمير العالم.

كنت أنتظر مولودتي الأولى في ذلك الوقت، فاخترت لها اسم حنين، ليسجل بيريز حضوره في حياتي الخاصة أيضاً.

الأكثر إيلاماً من وحشية القاتل الذي رحل هي تلك الهرولة الرخيصة من الرسميين العرب إلى جنازته، وتسابقهم في تدبيج نصوص العزاء والمواساة في صقر المذابح الذي يعتبرونه حمامةً، ويذرفون الدمع على السلام من بعده.

يستوي هنا المهرولون إلى الجنازة بالجسد، مثل محمود عباس، الذي هو صنيعة "أوسلو" التي هي صنيعة شيمون بيريز، أو الراحلين بالقلوب إلى قدسنا المحتلة، قبل موت السفاح وفي أثنائه وبعده، مثل عبد الفتاح السيسي الذي يكاد يغني للقدس - عاصمة لإسرائيل - قلوبنا إليك ترحل كل يوم، تدور في أروقة الكنيست، تفتش عن نظرة رضا والتفاتة دعم، لدى هذا المسؤول الصهيوني أو ذاك، لسلطةٍ تمارس في مصر أكثر مما كانت تحلم به إسرائيل.

وسواء ذهب عبد الفتاح السيسي، بالجسد، أم لم يذهب، فهو هناك، حاضر في العقل والوجدان الصهيونيين، وتقدير السفر من عدمه راجع لهم، فإن رأوا أهمية مشاركته سيفعل، وإن لم يكن ذلك كذلك، فسامح موجود، ورصيده لدى الصهاينة يكفي ليكون جديراً بممارسة طقس الحزن على رحيل أحد الآباء المؤسسين للدولة القاتلة.

وعلى ذلك، لا يحتاج الأمر إلى البحث عن مبرّرات للذهاب، أو إلى جهود متطوعين ظرفاء، من عيّنة مصطفى الفقي، للحديث عن قيم التحضر، مدفوع الأجر التي تدفع للمشاركة في جنازات قاتلينا، وسافكي دمائنا، من أجل مكان بارز في صورةٍ تجمع زعماء العالم الوغد، ذلك أن سلطة عبد الفتاح السيسي، ذاتها، هي حصاد جهد صهيوني دؤوب، وتجسيد لأحلام جنرالات دولة الاحتلال، ومن ثم لن تهمهم كثيراً شكلياتٌ، مثل حجم التمثيل الرسمي في الجنازة.

ولا مانع، هنا، من أصواتٍ تثغو في خلفية المشهد، برقاعة، عن عبارة "عزيزي بيريز" التي مرّروها في خطاب تكليف السفير، في أثناء حكم الرئيس محمد مرسي، في محاولةٍ مضحكةٍ للتغطية على أولئك الذين ينامون في فراش إسرائيل، من دون أن يستشعروا خجلاً.

والحاصل أن قتلة صغاراً ذاهبون للعزاء في قاتل كبير، فمذبحة رابعة العدوية هي امتداد لسلسلة مذابح عبر التاريخ، من دير ياسين إلى بحر البقر إلى قانا إلى الشجاعية، كلها مذابح صنعت من أجل إسرائيل.