بقلم / محمد عبد الرحمن صادق


إن ما شهدته الساحة المصرية من تغيرات منذ ثورة يناير أحدث تغييراً كبيراً في هيكلة الدولة وفي المنظومة الإدارية بها وفي كل مناحي الحياة . ومثلها مثل باقي المجالات تأثرت التيارات الدينية والسياسية تأثراً كبيراً ، فهناك من هرول بالقدوم إلى مصر ليصيبه نصيباً من الكعكة ، وهناك من فر خوفاً من العقاب والمسائلة .

- وبعد الانقلاب على هذه الثورة المباركة حدث نفس التغيير ولكن بطريقة عكسية . فلقد هرول بالقدوم إلى مصر من الفسدة الذين فروا بالأمس وفر منها من قام ضدهم الانقلاب من صفوة المجتمع في كل الشرائح ، حيث وقعوا فريسة بين رحى لهيب القتل والاعتقال والمطاردة ، وسندان صقيع الغربة والوحشة والحنين للأهل والأوطان .

- خروج هؤلاء من الصفوة فتح أبواب الجدال والنقاش ، فمنه ما هو سقيم وعقيم وغير بناء ومنه ما هو مُجدي ومُثمر وبناء . فهناك من صب غضبه ونقمته على من ترك الأوطان ظناً منه أن ذلك يُعتبر تولي من الزحف فرار من المعركة وهناك من قام بالتأصيل والتشريع لهذا الأمر مُعتبره فراراً بالدين وحفاظاً عليه وفراراً من التهلكة وبحثاً عن بيئة حاضنة للدعوة حتى يقوى عُودها ولا يذبل ويسطع نورها ولا يخفت وتلتهب جذوتها ولا تنطفئ .


- وإذا كان لابد من الإدلاء بالرأي ( وليس الإفتاء في الأمر ) فالأمور تُقدر بحجمها وتُوزن بميزانها الصحيح وهذه ليست دعوة لهجر الأوطان ، كما أنها ليست دعوة لتكليف النفس ما لا تطيق من البقاء تحت سوط الجلاد بل دعوة للرحمة بالنفس والكف عن جلد الذات والبُكاء الذي لا يُجدي ولا يبني بل يهدم ويُعطل 1- ألم يكن في صدر الإسلام هجرة إلى الحبشة فراراً بالدين وحفاظاً عليه وعلى من اعتنقوه ؟ فبعد كل الإيذاء الذي تعرض له الصحابة في مكة من قريش رأف النبي صلى الله عليه و سلم بحالهم فقرر أول هجرة في الإسلام فاختار أن يذهب الصحابة إلى أرض الحبشة.. لسببين :-


- أولاً : لأن الحبشة أرض لا تستطيع قريش أن تهاجمها .
- ثانياً : في الحبشة ملك عادل قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد ".
2- ألم يأمرنا الله تعالى في كتابه الكريم بالهجرة ؟ قال تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً {97} إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً {98} فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً {99} وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً {100} (النساء 97 – 100 ) .
3 - ألم يُعاتب الله تعالى من لم يُهاجر بل طلب الله تعالى من المسلمين عدم نُصرتهم حتى يُهاجروا ؟ قال تعالى : " ..... وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {72} " ( الأنفال 72 ) .
4 - ألم يوضح لنا النبي صلى الله عليه وسلم المقاصد الشرعية للهجرة ؟ عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه " ( رواه البخاري ومسلم ) .
5- ألم يفر سيدنا خالد ابن الوليد بجيشه حفاظاً عليه ؟ ففي غزوة مؤتة وأمام زحف الروم الهادر أمر سيدنا خالد رضي الله عنه بانسحاب الجيش بطريقة منظمة وأخذ يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً ، مع حفظ نظام جيشه ، ولم يتبعهم الرومان ظناً منهم أن المسلمين يخدعونهم ، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء ولم يتبعوا خالدا في انسحابه . وهكذا انحاز العدو إلى بلاده ، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين ونجح المسلمون في الانحياز سالمين ، حتى عادوا إلى المدينة .
- عن عروة بن الزبير، قال لما دنوا من حول المدينة تلقاهم الرسول والمسلمون ، قال : ولقيهم الصبيان يشتدون والرسول مُقبل مع القوم على دابة فقال : " خذوا الصبيان فاحملوهم ، وأعطوني ابن جعفر . فأتى بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه . قال وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون يا فُرَّار فررتم في سبيل الله ، قال فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله .
- فتذكر أخي جيداً : ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ) اجعلها نيتك وقبلتك وأحسن الظن بالله والتوكل عليه وحده . فالأمور تبع لمقاصدها ، فالذي يدعي أنه يُهاجر إلى الله ورسوله وهو يريد غرضاً آخر، فإنه مذموم من حيث كونه يُظهر من العبادة خلاف ما يُبطن .
وللنية فائدتان : أولاً : تمييز العبادات عن بعضها ، وذلك كتمييز الصدقة عن قضاء الدين ، وصيام النافلة عن صيام الفريضة .
- ثانياً : تمييز العبادات عن العادات .


- قال ابن حجر في " فتح الباري" : فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة ، فإنه يُثاب على قصد الهجرة ، لكن دون ثواب من أخلص .
- وقال بعض العلماء في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " فهجرته إلى ما هاجر إليه " قالوا : لم يكرر النبي صلى الله عليه وسلم عبارة " لدنيا يُصيبها ، أو امرأة ينكحها " احتقاراً لهما وإعراضاً عن ذكرهما
- وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " ( رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والنسائي في السنن ) .
- قد يستشكل البعض ما ورد في الحديث السابق ، حيث يظنّ أن هناك تعارضاً بين هذا الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا هجرة بعد الفتح " كما في " الصحيحين " .
- والجواب عن ذلك : أن المراد بالهجرة في الحديث الأخير معنىً مخصوص ؛ وهو : انقطاع الهجرة من مكة ، فقد أصبحت دار الإسلام ، فلا هجرة منها . على أن إطلاق الهجرة في الشرع يراد به أحد أمور ثلاثة : هجر المكان ، وهجر العمل ، وهجر العامل .
- أما هجر المكان : فهو الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان .
- وأما هجر العمل : فمعناه أن يهجر المسلم كل أنواع الشرك والمعاصي .
- والمقصود من هجر العامل : هجران أهل البدع والمعاصي ، وذلك مشروط بأن تتحقق المصلحة من هجرهم ، فيتركوا ما كانوا عليه من الذنوب والمعاصي ، أما إن كان الهجر لا ينفع ، ولم تتحقق المصلحة المرجوّة منه ، فإنه يكون مُحرماً .

يقول الشهيد محمد فرغلي رحمه الله تعالى : يا يوم العزة متى تحلّ بتلك الديار التي بَعُدَ عهدك بها ، وطال نأيك عنها بعد أن نشأت فيها ودرجت منها ؟.. يا يوم العزة والكرامة متى تأوي إلى ديارنا ؟ ومتى تنزل بأرضنا ؟ إنك إن أتيتنا ولا غائب عندنا أعز منك إذًا لفديناك بأرواحنا ودافعنا عنك بمجدنا ، وإذًا لحقٌّ لنا أن نعتز بك وأن نفرح بعد طول الغياب ، وبعد طول الأسى والعذاب ، حتى ذلك اليوم أما أعداؤنا فإنهم يرونه بعيدًا وأما نحن فنراه قريبًا .
نعم نراه قريبًا يوم أن تسودَ دعوتنا ، ويفهم الناس فكرتنا ، ويتجمع المؤمنون حول رايتنا ، راية الإسلام يفدونها بأموالهم وأنفسهم ويجودون في سبيلها بالأموال والمُهج ، يوم يعرف جند الإسلام حقيقة الإسلام ، ويوم يفهم رجال الإيمان حقيقةَ الإيمان ، يوم تقوم أسود الله من مرابضها فتكسر الحديد وتفك القيود ، ثم تزأر بصوتٍ جبار قاهر يقتلع بذور اليأس ، ويقتل بذور الضعف ، فتُحيي ميتَ الهمم وتبعث ماضي العزم ، ثم تصرخ من الأعماق إلى الأعماق أصواتًا داوية تملأ الطباق : " نحن فداء الإسلام .. نحن فداء الإسلام ، وها قد بُعثنا نسترد مجدنا ونستعيد عزنا ، وها قد خرجنا نغسل العار ، ونمحو أساطير الذل بجبار عزائمنا .... الجهاد طريقنا ، وراية الإسلام رايتنا ، وأعداء الإسلام أعداؤها ، نصب عليهم لهيب غضبنا ، ونستنزل عليهم لعنة من ربنا .


ها نحن قد خرجنا ، ولن نعود حتى يكون الدين كله لله ، وحتى تكون كلمة الله هي العليا .. ها نحن قد خرجنا ولن يعود منا إلا شهيد أو سعيد ، فأما شهداؤنا فأحياء عند ربهم يُرزقون ، وأما سعداؤنا فسيحملون بشرى إلى المخلفين بالديار أن قد زال العار ، ومضى العدو الجبار حيث لا رجعةَ له .. ها نحن قد خرجنا أبرارًا ولن نعود إلا أطهارًا " .
- ما أود أن أقوله أحبتي : أحسنوا تقدير الأمور ودوروا مع مصلحة الدين حيث دار ..... البيئة التي تُمكنك من نشر دعوتك وإقامة فرائضك وشعائرك والجُمع والجماعات هي وطنك إلى أن يأتي الله تعالى بالنصر من عنده . ولتكن هذه هي نيتك الخالصة حتى تؤجر وتُثاب ولا تضع نفسك في دائرة الفرار والتولي واعلم أنه بين الكر والفر شعرة دقيقة فكن صادقاً مع نفسك .


- وليعلم من اختار الهجرة أنه باختياره هذا قد أقام الحُجَّة على نفسه عندما اختار البيئة المناسبة التي تمكنه من نشر دعوته وإقامة فرائضه وشعائره والجُمع والجماعات فليصقل نفسه في كل المجالات وخاصة المجالات التي تفتقر إليها الدعوة حتى إذا عاد إلى وطنه كان لبنة من الفولاذ لا يغلبها غالب وكان مُعلماً لمن افتقدوه ومُربياً لهم وحانياً عليهم .


اللهم ألهمنا رشدنا وثبت على طريق الحق أقدامنا

 


المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها فقط ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع