د. فتحي أو الورد

 

 قراءة النصائح العامة ، والتوجيهات التربوية المطلقة فى محيط التربية والاجتماع من منظور شخصى ، وإسقاط نفسى فردى يحول دون الانتفاع بها، ويصد عن قبولها ، وتسلك القراءة على هذا النحو بصاحبها طريق التبرير وتحفزه للانتصار للذات والدفاع عن النفس بل والهجوم على الناصح .

وهذا السلوك المقاوم للنصيحة يدعو إلى نوع من الإحجام عن التصحيح والتقويم فى مسيرتنا الاجتماعية والتربوية ، ويجعلنا نتحسس كثيرا قبل أن ننطق بأى كلمة نعتقد صوابها وصدق توجهها ، ويحول دون وضع الأيدى على مكامن الداء لنلتمس لها الدواء .
كان فى القديم يطلب الإنسان النصح من صديقه ، ولما عز هذا الأمر كان التوجيه النبوى العام " ما بال أقوام " هو الأنسب لتغير الزمان ، ومراعاة للنفوس التى لم تألف النصيحة ، ولم تتعود على ممارستها .
ما معنى ما ورد فى السنة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما يستحق التوجيه والتصحيح ، صعد المنبر ووجه العام والخاص بقوله " ما بال أقوام " ليستفيد المجموع ، والمقصود بالتوجيه معا ، ويفهم التوجيه من كان يعى " إياك أعنى فاسمعى يا جارة " ؟ ما معنى ذلك إلا أن يكون هناك من يعرف نفسه تماما أنه المقصود بقول النبى صلى الله عليه وسلم ، وتوجيهه ، فيستفيد به على النحو الذى يصحح به ما كان من نقص أو خلل ، ويستفيد كذلك العامة ، وكلنا صاحب ذنب ، وكلنا صاحب خطأ .
وقد تتبعت هدى النبى فى التوجيه والإرشاد ، وتربية أصحابه ، وتصويب أخطائهم ، وتصحيح مسالكهم ، على طريقة " ما بال أقوام " فوجدت من ذلك كثيرا .
جاء فى شرح السنة للإمام البغوى أن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن يقول: " ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ".
وروى البيهقى فى شعب الإيمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ما يواجه رجلا بشيء يكرهه ولكن يقول: " ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ "
وفى صحيح ابن حبان عن ابن عباس ، ورد تصحيح للشروط فى البيوع، قال: اشترت عائشة بريرة من الأنصار لتعتقها، واشترطوا عليها أن تجعل لهم ولاءها، فشرطت ذلك ، فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق" ثم صعد المنبر، فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله" . وفى رواية البخارى : "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله ، فليس له، وإن اشترط مائة مرة ".
وروى البخارى ، من حديث أنس بن مالك فى توجيه النبى للمصلين إلى كراهية رفع البصر إلى السماء فى الصلاة ، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم " ، فاشتد قوله في ذلك، حتى قال: "لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم".
وروى البخارى عن عائشة فى بيان رفقه بأمته وحرصه على التخفيف عليهم ، قالت: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فرخص فيه فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخطب، فحمد الله، ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية " .
وروى مسلم عن أنس، أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه، فقال: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" .
قال الإمام النووى معقبا على ذلك : هو موافق للمعروف من خطبه صلى الله عليه وسلم في مثل هذا ، أنه إذا كره شيئا فخطب له ذكر كراهيته ولا يعين فاعله ، وهذا من عظيم خلقه صلى الله عليه وسلم ؛ فإن المقصود من ذلك الشخص وجميع الحاضرين وغيرهم ممن يبلغه ذلك ولا يحصل توبيخ صاحبه في الملأ. 
وروى أحمد فى مسنده عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: " ما بال أقوام تقول: إن رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنفع يوم القيامة، والله إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة، وإني - أيها الناس - فرط لكم على الحوض " .
وروى أحمد أيضا عن عروة بن الزبير فى تصحيح الفهم الخاطىء للعامة بعد أن وجه صاحب الواقعة على نحو خاص ، قال: سمعت أبا حميد الساعدي يقول: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن اللتبية على الصدقة، فلما جاء حاسبه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا لكم، وهذه هدية أهديت إلي. فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك"، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر قام فخطب، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، ما بال أقوام نوليهم أمورا مما ولانا الله، ونستعملهم على أمور مما ولاني الله، ثم يأتي أحدهم فيقول: هذا لكم، وهذه أهديت إلي، ألا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والذي نفس محمد بيده لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا جاء يوم القيامة يحمله على عاتقه ".
وفى الاستفادة من طريقة النبى صلى الله عليه وسلم " ما بال أقوام " فى التربية والتوجيه تجنبا للإحراج ، كان بعضهم يستخدم الكتابة فى التنبيه والتوجيه ، روى البيهقى فى شعب الإيمان عن عبد الرحمن بن مطرف، قال: " كان الحسن بن حي إذا أراد أن ينصح أخا له كتب له في ألواح وناوله ".
وقد بشر الله تعالى صنفا من عباده بالجنة كما قال مقاتل فى تفسيره ثم نعتهم فقال: "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" . وقال شيخ المفسرين الطبرى فى نفس الآية : يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فبشر يا محمد عبادي الذين يستمعون القول من القائلين، فيتبعون أرشده وأهداه، وأدله على توحيد الله، والعمل بطاعته.
جعلنا الله وإياكم من هؤلاء المبشرين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه