بقلم : مجدي مغيرة
 
لطالما سمعنا المحاضرات  والندوات في النوادي والمسارح  والجامعات ، وقرأنا في الكتب و الصحف والمجلات عن الدور العظيم الذي يؤديه المثقف في تنوير الشعب ، والأخذ بيد الجمهور نحو الوعي الذي يمنح الشعب حصانة ضد الاستغلال والاستغفال أيا كان نوع هذا الاستغلال والاستغفال ....الاستغلال والاستغفال السياسي ... الديني ...الفكري ....إلخ .
 
وقد صدقنا هذا الوهم سنواتٍ طوالٍ ، وأكبرنا دور المثقفين ، ومنحناهم ثقتنا ، والتهمنا كتبهم ومقالاتهم التهاما ، وافتخرنا بهم أمام كل من نقابله من أبناء الشعوب الأخرى ....
 
وكيف لا نفتخر بهم وهم الذين أناروا لنا طريق حياتنا ، وفتحوا أعيننا على كل جديد ومفيد ، ومرَّنوا عقولنا على التفكير الناقد ، ودرَّبوا ألسنتنا على الحديث بالكلام الهادف ، وارتقوا بمشاعرنا حتى صارت مشاعر مرهفة تنفر من الظلم ، وتستبشع الاستغلال ، وترفض الاستغفال ،  وتنادي بالحق والحرية والعدل والمساواة دون أن تخشى ظالماً  أو تهاب طاغية أو سفاحاً .
 
إلا أننا  وجدنا عند المواقف الفاصلة  والانعطافات الكبرى في حياة أمتنا ، وجدنا الكثير من هؤلاء – وأستثني منهم قلة قليلة -  على غير ما ظنناهم وعرفناهم ، حيث اكتشفنا أن كتبهم ونظرياتهم وقصائدهم ورواياتهم ومقالاتهم  ومحاوراتهم ومحاضراتهم ما هي إلا أقنعة مزيفة يرتدونها للتجمل أحيانا ، وللخداع والتزييف أحيانا ، ولأكل العيش أحيانا أخرى .
 
وحينما أقول المثقفين ، فأنا لا أقصد – بالطبع – هؤلاء البوابين  والسعاة وحَمَلَة المباخر الذين وضعتهم أجهزة الأمن والمخابرات رؤساءَ تحريرٍ للصحف والمجلات ، ومقدمي برامج في الفضائيات ، وصنعت منهم نموذجا يقتدي به البُلْهُ  والمغفلون ،  ولكنني أقصد هؤلاء الذين حملوا ألقابا ضخمة ، وحصلوا على شهادات عليا ، وتصدرت ألقابُ المفكر والدكتور والمبدع والباحث والمستشار والخبير أسماءَهم .
 
·        فقد وجدنا الأستاذ الجامعي وقد ملأت كتبُه التي تنادي باحترام القانون أرففَ المكتبات ، وطالما هاجم القوانين المخالفة لنصوص الدستور ، ولطالما هاجم النصوص الدستورية المخالفة لروح العدل ، فلما تسلم حقيبة وزارية ، أو منصبا رفيعا ، أو تولى إدارة جهة حساسة ، وجدناه يُفَصِّلُ القوانين التي تطلق يد الطغاة لتبطش بمن تشاء ، وتمتص دماء من تشاء ، وتنهب أموال من تشاء ، وتصادر حرية من تشاء .
 
·        ووجدنا المختصين والخبراء في المراكز الاستراتيجية الذين طالما تكلموا عن أهمية الديمقراطية في رقي البلاد ، وضرورة الاستفادة من تنوع الأفكار وتعدد المفاهيم لبناء دولة تتسع لجميع أبنائها ، وتستفيد من جهودهم المخلصة في بناء نهضة يشارك بها الجميع ، ويسعد بها الجميع ، ويحذرون – بشدة - من إقصاء الجماعات والأحزاب  مهما كان فكرها ، وإذا بنا نجد هؤلاء قد داسوا على أفكارهم بنعالهم ، ورموا نظرياتهم في صناديق الزبالة ، ووظفوا جهودهم في التبرير للظالم ، وتخطئة المظلوم .
 
·        وجدنا المفكر الذي يتحدث عن حتمية التنوع الفكري ، وضرورة اختلاف الآراء ، وأهمية اتساع الصدور لاختلاف تلك الآراء ، ويردد - بحماس زائد -  مقولة فولتير : "قد أختلف معك في الرأي ولكنني على استعداد أن أموت دفاعًا عن رأيك " ، ويستنكر تشدد بعض الجماعات الإسلامية في بعض المفاهيم والأفكار ، فإذا ما رددت عليه بعض أفكاره ، وبينت له تناقض أقواله ، رأيتَه يزمجر بصوته  ، وأظهر أنيابه ، وأخرج مخالبه ، ولم يترك عيبا إلا وألصقه بك ، ولا تهمة إلا اتهمك بها ، وتراه يستغيث بالشرق والغرب ليتألبوا عليك ويسعون لكتم أنفاسك .
 
·        أحدُ من يُدْرَجُ في عداد المثقفين عجز عن مجاراة الإسلاميين فكريا ، وفشل في تلميع صنم الناصرية الذي يتَعَبَّدُ في محرابه منذ سنوات طويلة ، هذا المدعو بالمثقف حينما وقع الانقلاب العسكري في مصر دَبَّجَ المقالات البليغة يدعو فيها السيسي بذبح الإخوان المسلمين بلا رحمة ولا شفقة ، وحثه على نسيان حقوق الإنسان ، وعلى تجاوز القوانين والأعراف في سعيه لإبادة أفراد الإخوان المسلمين  متجردا في دعوته من كل روابط الإنسانية والآدمية ، ويبدو أن صاحبنا كان ينتظر ثمن ذلك منصبا أو مكانة أو ما أشبه ، ولما لم يجد ما كان يصبو إليه ، بل أهانه بعض العسكر في إحدى سفرياته ، انقلب بسبب ذلك على السيسي انقلاب الحانق المحروم من نصيبه في كعكة الانقلاب ، وليس انقلاب تائب إلى الله ، أو انقلاب مسترد لبعض إنسانيته أو آدميته .
 
·        ووجدنا  الشاعر الكبير الذي طالما تلقفنا قصائده بتلهف كبير ، وحفظنا منها المقاطع الطويلة ، تلك المقاطع التي توقظ فينا روح الشجاعة في قول الحق ، ورفض الظلم ، وحب التضحية من أجل الوطن ، ثم نجد نفس الشاعر يبرر ظلم الطغاة  واستبدادهم ، بل ويحض الطاغية على ظلم الآخرين ، لا لشيء سوى أن النظام  فتح له أبواب الفضائيات ، وأفسح له صدر الصحف والمجلات ، وأغدق عليه المناصب والمكافآت .
 
·        ووجدنا الروائي الذي يزعم أنه يعبر عن الواقع ، ليكشف الحقائق ، ويقدم الحلول  ، ويقدس الحريات ، ويبين مزايا الديمقراطية ، ويحذر من نظام الحكم العسكري والفاشي والقمعي والشوفيني والاستبدادي والمكارثي والشعبوي  ، ويندد باستبداد حكامنا القدامى والمحدثين ، ثم ينكشف غطاؤه وتظهر حقيقته ، ونراه متلبسا بالدفاع عن نظام الحكم العسكري والفاشي والقمعي والشوفيني والاستبدادي والمكارثي والشعبوي .
 
·        ووجدنا بعضهم ينعي على دستور البلاد عدم السماح لإقامة معابد للهندوس في بلادنا – رغم عدم وجود من يعبد البقر بيننا - ، بل ويعيب على البعض منا إنكاره لهولوكست ( محرقة ) اليهود على يد النازي هتلر ، ثم نجد هذا القديس وذاك الملاك يحث الغرب على الموافقة والتخطيط لانقلاب عسكري على أول تجربة ديمقراطية في البلاد ، وينضم للعسكر المنفذين للانقلاب ، ويشارك في أول حكومة انقلابية شاركت في تخطيط وتنفيذ مذابح للمعتصمين السلميين تقشعر لها الجلود ويهتز لها الوجدان .
 
·        ووجدنا المدافعين عن حقوق الإنسان إذا تكلموا عن الحقوق ، تكلموا عن حق الردة عن الإسلام ، بينما إذا أسلم مسيحي أو مسيحية اتهموا الإسلاميين دون تحقيق ولا تمحيص باستخدام الإرهاب لإجبار الآخرين على اعتناق الإسلام ،  وأوصوا بمنع ختان البنات وعقاب من يفعل ذلك عقابا شديدا  ، وتكلموا عن جريمة الزواج المبكر وضرورة تأخير سن الزواج إلى ما بعد سن العشرين ، وفي المقابل  ينادي بعضهم بحق حرية ممارسة الجنس للبنين والبنات ، وعن حق الإجهاض ، وعن حق ارتداء البنت ما تشاء من ثياب دون إنكار على المثير منها للغرائز والشهوات ، وإذا ما ارتدت الفتاة الحجاب أو النقاب برغبتها وجدتهم يهاجمونها ، ويتهمونها بالانغلاق ، ويفسرون تصرفها بأنه تعبير عن عقد نفسية وحرمان عاطفي ...إلخ ، تلك هي الحقوق التي يدافع عنها الحقوقيون ، فإذا اعتقل الإسلاميون دون وجه حق صمتوا عنهم صمت القبور ،كأن هؤلاء الإسلاميين ليسوا آدميين لهم حقوق الآدميين وكرامة الآدميين .
 
لقد عرَّى الانقلابُ العسكري – بقسوة وغلظة - حقيقةَ كثيرٍ من الأدعياء ....أدعياء الثقافة ، وأدعياء الفكر ، وأدعياء الحرية والديمقراطية ، وأدعياء حقوق الإنسان ، وبين لنا أن الإنسان الحر ليس بالضرورة هو من ارتدى ثياب العلم ، وتلفف برداء الثقافة ، وتعمم بلقب المفكر ، ووضع على كتفيه شارة الأديب أو الشاعر ، بل إن الحر هو كل من رفض الظلم ، ودافع عن الحق ، وحافظ على حدود إنسانيته ، ورفض أن تُنْتَهك آدميته ، أو تضيع حريته .