بقلم: محمد ثابت

كلما زادتْ النفس تعجباً من حال المصريين اليوم، وبخاصة نفسياتهم وتصديقهم ما لايُصدقُ أو يُقبلُ أو حتى يُتخيلُ، ولهذا أمثلة تعز على الحصر، ويضيق "المدى" بها، لا سطوراً ولا كتباً أو مجلدات، كلما زادتْ النفس تعجباً من حال "الكتلة الحرجة" التي تقبل بحياة لا تقبلها مخلوقات أخرى غير الإنسان من آسف..كلما "ضبطتُ نفسي" ممعناً في التفكير في الأمر اعتقدتْ يقيناً ألا دراسة نفسية حقيقية متعمقة للمصريين، وإن المصلحين الذين أرادوا تغييرهم بتولي الرئاسة ..هرولوا دون مجرد فهم لطبيعة شعب أرادوا حكمه، والعلو به، أسبابهم للتتسرع ربما يضيق عنها المجال هنا .. ولكني مؤخراً عدتُ، كما التاجر "الشاطر" في المثل المصري القديم، ذلك الذي إن أحس بالإفلاس بحث في دفاتره القديمة، غير إني لي دفاتر ناصعة تتيّه بألقها على دفاتر العالم القديم والقادم.. تلك آي الذكر الحكيم ..أما ما يخص المصريين فقصة موسى تنوأ بها المجلدات ولا توفيها حقها..

تبقى "سورة يوسف" منظومة واحدة شجية من وصف حال ونفسيات بل طبيعة المصريين، ونسقاً متكاملاً لطبيعة أجدادهم منذ آلاف السنين، وأولئك الذين أنجبوا أجداد الشعب الحالي، أو النسبة الأغلب منه ..

إن قصة يوسف "تجميع مُحكم" ولله المثل الأعلى، لما لا يعد من "الدراسات المُحكمة" حول ألوان طيف فريد للنفس البشرية لم يترك تفصيلة لون إلا ذكرها..بل إنني لأزعم إن سيدنا يوسف، عليه السلام، لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه سواء من العلم والحكمة إلا بفضل الله ثم بمعاملته "أهل مصر"، ومع محبتي الشديدة للأهل هناك ..ولكن هل في الكون مثل مصر ومثل أهل مصر..اللهم أعدنا إليها على خير..وكحل أعيننا بمرأها ومرأهم ..وإنما الغاية من هذه الكلمات عدم التسليم بالواقع ومحاولة تخطيِّه..

(1)

تداعيات ومقدمات مجىء سيدنا يوسف إلى مصر معروفة، كونه ابن إحدى قريبات سيدنا يعقوب، السيدة راحيل، وهي حرة، ووجود احد عشر أخاً من أبناء "الأغيار" أي النساء الغريبات من جوارٍ، وما شابه، والأخيرون "غاروا من مكانة يوسف لدى أبيه" فقادوه إلى البئر، وألقوه ليأتي "سيارة" أو أعضاء في قافلة مكلفين بجلب الماء، وهنا لدينا أول ملمح من طبيعة مراوغة للمصريين، فهؤلاء قادمون من "الغربة" غالباً للتجارة، عائدين إلى بلدهم، تقلبات شديدة الفوران، تجعلك تشك في "مسام الفهم والإدارك منك لا منهم فحسب" ويكفي أن تعرف إن "واردهم" يلقي دلوه، يرمي أناء الماء إلى البئر فلما يتعلق "يوسف" عليه السلام به ، ما يكاد يراه حتى يهتف بعمق الفرح بداخله:

ـ "يا بشراي هذا غلام"!

لقد وجد ما لم يخطر له على بال في هذا المكان أو في غيره..غلام بالغ الجمال، وقيل إن يوسف، عليه السلام، أوتي نصف جمال البشر، ولا أنسى معلمة دخلت لنا في حصة احتياطية في المرحلة الإعدادية فشرحت قصة يوسف، وكنتُ صغيراً بعد لم أفهم سر حسرتها وهي تقول إن يوسف أوتي نصف الجمال، ومن أوتي ذرة منه يتيِّه على البشرية، إنه حب الجمال الأصيل في نفوس طالما أحببناها، وتلك محبة نابعة من رغبة عجيبة بالفعل ب"الاستحواذ" على كل "زينة" في الحياة، ولعله غير بعيد عن هذا السياق "يوم الزينة"، ولكن قبل التمادي فإن الذين وجدوا يوسف .. هم .. هم .. نفس الفرحين به .. المستبشرين .. هم أنفسهم الذين باعوه بثمن بخس و"كانوا فيه من الزاهدين"، حتى إن بعض المفسرين لفرط ذهولهم من اختلاف الموقفين ذهب إلى القول بإن "بشراي" في قوله تعالى" "يا بشراي" اسم شخص وليس هتافاً للتعبير عن فرط الدهشة والفرحة، والحقيقة إنها "تعقيدات نفس شديدة التباين" حتى إنك لا تكاد تعثر في "الوان الطبيعة" على لون واحد مشابه لها، أولئك الفرحون المحبورن المسرورن بيوسف منذ دقائق .. يبيعونه بثمن بخس .. قليل جداً .. ودعنا من الزهد فيه كان من أي طرف البائع أم المشتري أم الاثنين .. دعنا من هذا الآن..

إنها طبيعة جزء كبير من سواد أرض هذا الشعب، مع محبتنا وتقديرنا ورغبتنا الرفعة لهم .. إلا إن هذا أنى يتأتى إلا بتحديد موضع المرض؟!..أولئك الذين يطبلون ويهللون ويسيرون في كل درب يأتي لهم بمصلحة، ولو كانت ضعيف واهية، وهم في أعمق أعماقهم يعرفون إنهم يسيئون إلى أنفسهم قبل بلدهم.. بل الحياة .. أمثال هؤلاء يفرحون بإنقاذ إنسان .. وبث الحياة فيه، ويُؤخذونَ بروعة تكوينه، ودقة النقاء فيه، ولكن مصلحتهم العابرة العارضة، التي يمكنهم الصبر عليها قليلاً لما تقتضي "التخلص" منه بلا ثمن تقريباً، يوازنون بين ألا ثمن، الذي يساوي ربحاً لديهم، وبين الاحتفاظ به فيفضلون ألا ثمن ..!

تجربة بالغة المرارة تكاد تحرق مصر كلها اليوم، فهؤلاء الذين وجدوا يوسف عليه السلام، هم من كنا ندعي إنهم خير أجناد الأرض، دون سند صحيح من حديث، ولكننا كنا نقول، بل "كانوا يقسمون" في "جدية الثورة"..إن الله يحبنا فوهبنا جيشاً وطنياً، وليس مثل سوريا، استخففنا بالآخرين ..فسقانا الله من نفس الكأس..

إن أمثال هؤلاء الذين وجدوا يوسف عليه السلام كانوا قادرين على تركه حراً يعمل في حقل هنا، أو شبيه مصنع هناك، ولكنه أمر الله، ثم سوء بالنفوس.. ورغبة في جلب مصلحة بسيطة، بل تضارب مصالح يزيح بعضها بعضاً، فالدراهم أعز عليهم من الإنسانية .. ولنسأل انفسنا عن الجنود الذين يَقتلونَ أبناء الوطن اليوم مقابل دراهم أقل من معدودة .. أليسوا من أحفاد الذين وجدوا يوسف عليه السلام وفرحوا به .. وباعوه غداً بلا ثمن تقريباً؟!

(2)

إذا كان القرآن الكريم لم يتحدث عن والدة سيدنا يوسف، ولا عن نساء من أهله فإنه، والله أعلم، عظمهن عن هذا الأمر، إننا لنعرف اسم أمه من كتب التفسير، ولكن لدينا المحطة التالية في السورة..امرأة تمثل حشداً من نسوة مصر في ذلك الوقت ..وحتى هذا الوقت، مئات الآلاف إن لم يكن يزدن..سنتحدث عن امرأة العزيز قبل العزيز، مع خطورة دور الأخير، ويكفي أن ندقق في القراءة فالرجل اشتراه .. وأوصاها به رغبة في أن "ينفعنا أو نتخذه ولداً" .. ولكن منظومة القيم والمبادىء المتردية بداخلها "سولت" لها أمراً آخر، وإنك إذ تعجب من "حقير" التخيل لامرأة لعل عمرها يبلغ ضعفيّ عمر "غلام" ترعرع بين يديها، ولعل زوجها كان يقصد أن يكون من "بعض عمالهما أو خدمهما"، مع الاحتفاظ لسيدنا يوسف بمكانته اللائقة ، وبدلاً من أن "تشعر" بالبنوة ناحيته شعرت بشعور آخر يناسب "منظومة" الفهلوة وحب الاحتفاظ بكل خير للنفس!

يكفيك أن تعلم إنها سيدة البيت المطاعة، وإن جميل بيان ومعاني القرآن الكريم قال في "سياق المراودة"، وسنأتي في حينه إليه، "وراودته التي هو في بيتها" ثم لما يرد يوسف عليه السلام عليها يقول في الآية التالية: "معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي" ونستشف من الآية إن البيت الذي كان يقيم يوسف فيه هو بيت العزيز، اشتراه بماله، أياً كان مصدره، وهو المُنفقُ عليه، لكن القرآن ينسب البيت إليها، في لفتة تكريمية لا تخفى على ذي عقل، أي إن التي أكرمها الله تعالى بجعل البيت إليها ..تتدنى لمراودة "فتاها" عن نفسها ..

تلك طبقة الحكم شئنا أم أبينا .. المستأثرة بالسلطة، الوجه الآخر لمن باعوا يوسف منذ قليل، وإن تعددتْ السنوات وتباينت ومرت بسرعة هائلة، هؤلاء مثلهم سواء ..بسواء انتهازيون بالغو الانتهازية، الأوائل يفعلون الجرائم ويُهدونها إلى هؤلاء، وهؤلاء يتمتعون بثمرتها.. وامرأة العزيز تنتمي لطبقة "قمة التورتة" المتعة المجردة، طبقة حصاد كدّ الشعب، والتلاعب به، وإغراقه في التفاهات ..وتبرير ارتكابه الجرائم له، هي والنسوة يقمن من نومهن بعيد العصر، وليس من شأنهن إلا الحشية والتكايا والفاكهة والسكاكين، واعتبار البشر ملائكة على اعتبار الشكل أو حسن التقاطيع، ولا وازع ولا رقيب من سمعة أو ضمير، أو حتى خوف فضيحة ..

يشب يوسف بين يديها ..قطعة من الجمال الطاهر النقي فتضن بخيره على البشرية ..

وتريد تلويثه بما في نفسها من دنو للتراب، وحب للطين..وبدلاً من أن ترى فيه طفلاً حرمتها الأيام والمقادير، بحسابات اللواتي لا يعرفن الله مثلها حتى ذلك الحين فقد قيل إنها أسلمت لاحقاً، حرمتها المقادير الولد لإن الأيام لا تهب البشر كل شىء، فلديها في بيتها المال والحكم والجمال والسلطة، وايضاً الولد..يالها من نفس بشرية غريبة عجيبة، كانت منه بمثابة الأم، تراه فيما تراه الأم من ولدها، نائماً وقائماً ومتخففاً من الثياب.. فتتخيل ما تأباه النفس البشرية السوية في أبسط درجاتها ..

نكمل في الجزء الثاني بإذن الله تعالى

المقالات المنشورة تحمل وجهة نظر أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع