أحمد عبد الحافظ محمد

في انتظار موعود الله
قبل معركة القادسية (15هـ) أمر رستم قائد الفرس رجاله أن يأتوا له برجل من العرب ليعرف منه أخبار الجيش الإسلامي، فخرج قائد جنده الجالينوس في مائة من الفرس، وهجموا غرةً على سرية من المسلمين على حدود قنطرة على نهر العتيق -ونهر العتيق يحيط بالقادسية، واختطفوا رجلا من المسلمين كان قد شرد عن السرية، وأخذوه أسيرًا، فتعقبهم المسلمون غير أن الفرس هربوا إلا ما أصاب المسلمون في أخرياتهم، وعادوا بالأسير إلى رستم.

تُرى ما دار بينهما من حوار؟!

قال له رستم: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون؟
قال المسلم: جئنا نطلب موعود اللَّه.
قال رستم: وما هو؟
قال المسلم: أرضكم وأبناؤكم ودماؤكم، إن أبيتم أن تسلموا.
قال رستم: فإن قُتلتم قبل ذلك؟
قال المسلم: في موعود اللَّه أن من قُتل منا قبل ذلك أدخله الجنة، وأنجز لمن بقي منا ما قلتُ لك، فنحن على يقين.
فقال رستم: قد وضعنا إذًا في أيديكم.
قال المسلم: ويحك يا رستم! إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم اللَّه بها، فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تحاول (تحارب) الإنس، إنما تحاول القضاء والقدر!.
فاستشاط رستم غضبا، فأمر به فضربت عنقه، واستشهد في سبيل الله عز وجل.

فهذا رجل من أغمار الناس، لا نعرف اسمه، يقف أمام رستم أعظم قائد في قواد الفرس، في ثقة منقطعة النظير ولا يبالي بما يمكن أن يصيبه على إثر ذلك؛ لأنه يعرف غايته جيدا، إنه يبحث عن الجنة، هذا هو موعود الله.

بل ويملك همة عالية ونفسية تناطح اليأس؛ فهو إما أن ينتصر، وإما أن يُستشهدَ فيدخل الجنة، أما أن يُغلبَ أو يُهزم، فهذا ليس نهاية المطاف عند المسلمين، فإذن كما قال رستم: "قد وُضِعَ الفُرْسُ في أيدي المسلمين". بهذه النفسية العالية وتلك الروح الوثابة استطاع المسلمون أن يقهروا عدوهم.

ماذا عسى أن يفعل بنا المجرمون؟!
وتجدني أمام صولة الباطل وبطشه، أقف مع نفسي أساءلها: ماذا عسى أن يفعل بنا المجرمون أكثر ما فعلوا: أيقتلوننا؟! أيعتقلوننا؟! أيطاردوننا هنا وهناك؟! أيصيبون منا كَلِما وجراحًا؟!

وإذا بنداء ابن تيمية يشفي الصدور ويريح النفوس، "مَا يَصْنَعُ أَعْدَائِي بِي، أَنَا جَنَّتِي وَبُسْتَانِي فِي صَدْرِي أَيْنَ رُحْت فَهِيَ مَعِي لَا تُفَارِقُنِي، أَنَا حَبْسِي خَلْوَةٌ، وَقَتْلِي شَهَادَةٌ، وَإِخْرَاجِي مِنْ بَلَدِي سِيَاحَة"، ولما سُجن رحمه الله وأغلق عليه باب القلعة وصار داخل سورها نظر إليه، وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ (وهو الذي يليه) وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَاب (وهو الذي يليهم)} [الحديد: 13].

إن المؤمن الذي يصل الأرض بالسماء، والدنيا بالآخرة يستعصي على الهزيمة النفسية، بل يقهرها قهرا، حتى أن أحدهم -يونس بن عبيد- يبكي عند موته، فقيل له: "ما يُيكيك يا أبا عبد الله؟"، قال: "قدماي لم تغبرا في سبيل الله عز وجل".

فقد يعاني المصائب والمحن، ولكن شعاره: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]، وأمله الأعظم في قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [آل عمران: 139]. وعزاؤه الأكبر في قوله سبحانه: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].

نفسية نوح عليه السلام
ومن يتأمل قصة نوح عليه السلام وقد مكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، بلا كلل ولا ملل، ولا فتور ولا وجل، تعرض خلالها لصنوف شتى من الإعراض والسخرية والاستهزاء، حتى إذا بلغ بهم الإعراض مبلغه والصد منتهاه ووصلوا إلى مرحلة المدافعة بالقوة، إذا به عليه السلام يهتف فيهم بنفسية عالية وهمة سامية وبثقة بوعد الله جازمة: {يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 71 - 72].

إنه عليه السلام قال: "فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَعَلَى اللَّه تَوَكَّلْتُ فَإِنِّي وَاثِقٌ بِوَعْدِ اللَّه جَازِمٌ بِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا تَظُنُّوا أَنَّ تَهْدِيدَكُمْ إِيَّايَ بِالْقَتْلِ وَالْإِيذَاءِ يَمْنَعُنِي مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّه تَعَالَى"، ثم إنه عليه السلام أورد ما يدل على صحة دعوته، فقال: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ}، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ أَجْمِعُوا كُلَّ مَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوجِبُ حُصُولَ مَطْلُوبِكُمْ، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَضُمُّوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ شُرَكَائَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ حَالَهُمْ يقوى بمكانتهم وَبِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى هَذَيْنِ بَلْ ضَمَّ إِلَيْهِمَا ثَالِثًا وَهُوَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} وَأَرَادَ أَنْ يَبْلُغُوا فِيهِ كُلَّ غَايَةٍ فِي الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُجَاهَرَةِ، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى ضَمَّ إِلَيْهَا رَابِعًا فَقَالَ: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} وَالْمُرَادُ أَنْ وَجِّهُوا كُلَّ تِلْكَ الشُّرُورِ إِلَيَّ، ثُمَّ ضَمَّ إِلَى ذَلِكَ خَامِسًا وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلا تُنْظِرُونِ} أَيْ عَجِّلُوا ذَلِكَ بِأَشَدِّ مَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِنْذارٍ، فَهَذَا آخِرُ هَذَا الْكَلَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ كَانَ قَاطِعًا بِأَنَّ كَيْدَهُمْ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ وَمَكْرَهُمْ لَا يَنْفُذُ فِيهِ" ا.هـ.
"إنه التحدي الصريح المثير، الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئ يديه من قوته، واثق كل الوثوق من عدته، حتى ليغري خصومه بنفسه، ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه!

فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة؟ وماذا كان معه من قوى الأرض جميعًا؟

كان معه الإيمان .. القوة التي تتصاغر أمامها القوى، وتتضاءل أمامها الكثرة، ويعجز أمامها التدبير، وكان وراءه الله الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان! إنه الإيمان بالله وحده ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه. فليس هذا التحدي غرورًا، وليس كذلك تهورًا، وليس انتحارًا، إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان.

وأصحاب الدعوة إلى الله لهم أسوة حسنة في رسل الله، وإنه لينبغي لهم أن تمتلئ قلوبهم بالثقة حتى تفيض. وإن لهم أن يتوكلوا على الله وحده في وجه الطاغوت أيًا كان! ولن يضرهم الطاغوت إلاَّ أذى- ابتلاء من الله لا عجزًا منه سبحانه عن نصرة أوليائه، ولا تركًا لهم ليسلمهم إلى أعدائه. ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف. ثم تعود الكرة للمؤمنين. ويحق وعد الله لهم بالنصر والتمكين" ا.هـ.

وهكذا فالمؤمن المجاهد له شأن وللناس شأن: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
_________
- الطبري: تاريخ الرسل والملوك، الناشر: دار التراث- بيروت، الطبعة: الثانية – 1387هـ.
- العصامي المكي: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1419هـ - 1998م.
- الذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: بشار عواد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي، الطبعة: الأولى، 2003م.
- ابن كثير: البداية والنهاية، الناشر: دار الفكر، عام النشر: 1407هـ - 1986م.
- عبد الله ناصح علوان: مدرسة الدعاة، الجزء الأول – الفصل الخامس (صفات الداعية النفسية)، الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2001م.
- ابن القيم:  الوابل الصيب من الكلم الطيب، تحقيق: سيد إبراهيم، الناشر: دار الحديث - القاهرة
رقم الطبعة: الثالثة، 1999م.
- ابن الجوزي: صفة الصفوة، تحقيق: أحمد بن علي، الناشر: دار الحديث، القاهرة، مصر، الطبعة: 1421هـ -2000م.
- فخر الدين الرازي: مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1420هـ.
- سيد قطب: في ظلال القرآن، الناشر: دار الشروق - بيروت- القاهرة، الطبعة: السابعة عشر 1412هـ.