بقلم: صادق أمين

المصادرة للرأي الآخر قبل الحوار: من البدهي حين يطرح أي إنسان -مهما كان موقعه وذكاؤه- اجتهادا ورؤية في أمر ما أن يتوقع وجود من يختلفون مع هذا الطرح، ولا أجد مبررا لأن يبادر صاحب الطرح بوصف من يتوقع خلافهم بضيق الأفق وانعدام الرؤية وضعف البصيرة، كأنما هو ينقل من اللوح المحفوظ، أو ينطق بلسان الوحي، أو ينطلق من ميدان العصمة، وكأن اجتهاده دين مقدس لا يجوز نقده، كما فعل الإعلامي اللامع الأستاذ أحمد منصور، حين كتب «إلى العقلاء وذوى الرأى والبصيرة من الإخوان المسلمين» ومع ما في عنوان المقال من إشارة غير منصفة -في رأيي- فإنه رأى أن من ينقاد لرأيه واجتهاده بلا مراجعة هم «ذوو الرأي والبصيرة والعقل والمروءة والرشاد من الإخوان المسلمين»، ومن لن يعجبهم كلامه فهم «ممن تربوا على المفاهيم العاطفية الضيقة والخاطئة داخل صفوف الإخوان»، فهل هناك معنى للاستبداد بالرأي والإعجاب بالنفس أوضح من هذا؟ وهل يُقبَل من صاحب هذا التصنيف المستبد الذي يصادر على المخالف لرأيه أن يصف من ينتقدهم من قيادة الإخوان المسلمين بالاستبداد؟ أترك الإجابة للقارئ البصير.

وإذا كانت التربية في الإخوان يا أستاذ أحمد تتم للبعض «على المفاهيم العاطفية الضيقة والخاطئة»، فأين تتم التربية لتكوين «ذوي الرأي والبصيرة والعقل والمروءة والرشاد»؟

وهل لدى الإخوان نوعين متباينين من المناهج، يتم تخصيص فئة لكل منهج؟ أترك الإجابة للقارئ البصير. التغيير والتطوير ضرورة حياتية: لا يختلف عاقلان في ضرورة التطوير والتغيير إلى الأحسن لمن يريد أن يتقدم في هذا الكون الذي لا يكف عن التطور، ويكون ذلك في الأهداف والرؤى كما يكون في الوسائل والآليات، وليس هذا التغيير بالضرورة نتيجة لقصور الأهداف القائمة أو فشل الوسائل والآليات المستخدمة، بل هو في الأصل استجابة طبيعية لمستجدات الحياة، واتساق طبيعي مع حالة الإبداع الإنساني التي لا تتوقف، وهذا ما حرص عليه الإخوان المسلمون، فأصابوا في بعض جوانبه، ولم يوفقوا في بعضها، وهذا هو شأن غير المعصوم أن ينجح ويخفق، والمهم أن يكون لديه القدرة على التعلم من إخفاقاته والبناء على نجاحاته، من غير أن يدفعه النجاح للغرور، أو يشده الإخفاق لليأس والإحباط، وأن يكون لديه الميزان الأخلاقي العادل للتفريق بين جلد الذات وبين استخلاص الدروس.

ولا ريب أن الإخوان أصابوا وأحسنوا في كثير من اجتهاداتهم، وجانبهم الصواب في بعضها، ومن العدل ألا نبخس المجتهدين اجتهادهم، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر. ومن ثم فمن الطبيعي أن يستجيب الإخوان لكل ناصح أمين، وأن يجددوا باستمرار في الأهداف والرؤى والوسائل والمناهج، وليس في ذلك أدنى انتقاص من جهود العاملين الصادقين الذين بذلوا جهدهم، وهي نصيحة مقبولة أيا كان غرض مُسْدِيها، وأيا كانت القسوة والشطط في طريقة تقديمها.

وأحب أن أطمئن الأستاذ أحمد وغيره بأن ما طرحته من دعوة لتغيير اللوائح ليس جديدا، وأول من طرحه ويسعى إليه هم القادة الذين أساء قلمك التعبير عنهم، وحمَّلهم ما لا يتفق مع العدل والإنصاف والواقع، ورماهم بما لا يليق من الضعف وسيء الأخلاق، فهم يؤمنون بأن الدعوة دعوة الله لا دعوتهم ولا دعوة المؤسسين مهما بلغ جهادهم، وهم من سعى ولا يزال يسعى بكل عزم في تمكين الشباب وتقديمهم للصفوف الأولى حيث يجب أن يكونوا، ويمدونهم بكل ما لديهم من خبرة، ويضعون أنفسهم موضع الجنود المخلصين بكل حب وتقدير، إذ يرون الموقع المتقدم مسؤولية ومغرما يتحملونه بطيب نفس وصدق عزيمة وإيمان، ويغادرونه لمن يتحمله بقناعة وامتنان.

كل المواقع القيادية في الجماعة بالانتخاب: يدعو الأستاذ أحمد إلى «انتخاب مجلس شورى جديد بصلاحيات واسعة لمحاسبة مكتب الإرشاد والقيادة»، ويبدو أنه لا يعلم أن كل المواقع القيادية والمجالس الشورية على كل مستويات الجماعة تمت وتتم بالانتخاب، فلا جديد في هذه الدعوة، إلا ما قد يبدو في صيغتها من محاولة تأليب بعض الإخوان على بعض والتحريش فيما بينهم، وهو أمر تأبى أخلاق الإخوان وقيمهم على اختلاف مواقعهم وأعمارهم أن تسمعه، فضلا عن أن تستجيب له، وخليق بالأستاذ أحمد أن يكون هذا أحد الأمور الكثيرة التي ينبغي أن يعتذر عن إرادتها وكتابتها.

وأسوأ من ذلك سوء وصفه للرئيس البطل الممتحن الصامد، ولئن كان الأستاذ أحمد لا يعرفه ولا يدرك من مهاراته وإمكاناته النفسية والفكرية والعقلية والسياسية ما يعرفه ويدركه الإخوان الذين قدموه للترشح؛ فإن الفتوة والمروءة تقتضي ألا يكون الحديث عن الرئيس المنتخب الأسير بهذه الصورة غير المنصفة، وهو الذي تفادى عدة محاولات للانقلاب عليه وعلى الثورة، واستطاع بمجرد منصبه أن يفتح مصر على العالم، وأن يقفز بمصر في كل المجالات، وأن يحقق كثيرا من النجاحات، رغم أن كل أجهزة الدولة كانت تجاهد في إفشاله، ورغم أن أطرافا دولية وإقليمية كانت تحاربه على كل الجبهات.

إن شرف النقد لا يحصل في حال تغييب من توجه إليه نقدك ولا تستطيع سماع رده!. معلومة غير صحيحة ونتيجة خاطئة: على غير عادته في التدقيق في المعلومات تحدث الأستاذ أحمد عن «رضوخ أعضاء الشورى لمخالفة صريحة للوائح الجماعة بالتصويت بأغلبية صوتين على هذا القرار المصيري (يقصد قرار التقدم بمرشح للرئاسة) بعدما رفض نفس المجلس فى مرتين التصويت لصالح هذا الطلب، وهذا يعكس عملية التوريط المتعمد للإخوان للزج بهم فى هذه المحرقة من قبل بعض قياداتهم التى يجب أن تحاسب»، ورتب على هذه المعلومة الباطلة استنتاجات في ذهنه هو، لا ظل لها في الحقيقة والواقع.

فلا صحة على الإطلاق لرفض مجلس الشورى القرار مرتين قبل التصويت لصالحه في المرة الثالثة، بل التصويت لم يحصل إلا مرة واحدة بعد مناقشات مستفيضة على مدى ثلاث جلسات طويلة قلب الأعضاء فيها وجوه الرأي المختلفة بكل حرية، حتى إذا لم يبق مجال لأي إضافة في المناقشات تم التصويت السري الذي جاء لصالح القرار بالترشح بأغلبية الأصوات، وأيا كانت نسبة الأغلبية، فالطبيعي أن ينزل الجميع على رأي الأغلبية، وهذا ما عرف به الإخوان في احترام اللوائح والشورى. فهل النزول على رأي الأغلبية بعد المناقشات المستفيضة مما يعاب؟ أترك الإجابة للقارئ البصير.

أما الحديث عن «هالة التقديس والاحترام المتكلف والمفرط فيه للقيادة» فمن أعجب العجب، فلا القيادة تسعى لهذا، ولا عموم الإخوان يفعلون هذا، وإنما هذه مشكلة نفسية لدى البعض حين يرون الحب القوي الذي يربط الإخوان بعضهم ببعض، والاحترام الكبير الذي يبديه الإخوان لكل ذي جهد في خدمة دينه وأمته، والإقرار العملي بمعرفة الفضل لأصحابه، من غير أن يحول هذا التقدير (لا التقديس) بينهم وبين تقديم النصح وتصحيح الخطأ، ورفض المجاملة لأي كان على حساب الدين والوطن.

ويبلغ العجب مداه حين يستنكر الأستاذ أحمد تربية الإخوان على اعتبار «أن المحنة قدر محتوم»، ولا أدري بم يسمي الأستاذ أحمد كل ما يجري على العباد إذا لم يكن قدرا محتوما، والله تعالى يقول ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ».

إذا كان المسلم مطالبا باتخاذ كل الأسباب المادية والمعنوية في كل أموره، فإنه مطالب كذلك بأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. نعم نتربى على أنه ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ ولا يمنعنا ذلك من أن نتربص بالظالمين كما يتربصون بنا، ونستعد لهم كما يستعدون لنا ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾.

إن عقيدة الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره تربي المؤمن قبل وقوع المقدور على الشجاعة والإقدام واقتحام الأسباب، وعدم التخاذل أو التردد أو الإحجام أمام الصعاب، وبعد وقوع المقدور على مواصلة الطريق بقوة وعزيمة وبأس، وعدم الاستسلام للإحباط أو الانهزام أو اليأس، وهي على كل حال لا تتناقض مع محاسبة المقصر وتصحيح الأخطاء، فهل من عيب في الإيمان بأن ما جرى كان قدرا محتوما؟ أترك الإجابة للقارئ البصير.

وحتى لا أطيل على الأستاذ أحمد وعلى القارئ الكريم فإنني أرى أن الأستاذ أحمد لم يخطئ التعبير والمضمون فحسب، بل أخطأ التوقيت بشكل أكبر، وحريٌّ به وبكل صادق غيور على هذا الوطن أن يشرع سلاح قلمه في الدفاع عن المظلوم وفي وجه الانقلاب والانقلاب فقط، حتى يسقط بإذن الله، وعندئذ تكون المحاسبات والمعاتبات والتلاومات، وأن يبذل قصارى جهده في بلورة الرؤى المبتكرة وتقديم الاجتهادات العملية المناسبة لنجاح الثورة ورفع همة وعزيمة الثوار، وتقديم الأطروحات الواعية لتقريب ساعة النصر، والمستشرفة لآفاق المستقبل.

وأطمئن الأستاذ أحمد وكل الغيورين على الوطن وعلى الإخوان المسلمين أن النصائح مقبولة مهما كانت مرارتها، والاجتهادات مقدرة مهما اعتراها من شطط، ولن يألو الإخوان جهدا في تصحيح أخطائهم وتقويم مسيرتهم وإصلاح عيوبهم، زلفى إلى الله، وطلبا لرضاه، وسيبقون في رباط الثورة والوطنية الصادقة، وعند حسن ظن الأمة والوطن بهم بإذن الله، واثقين من نصر الله للحق وأهله ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾