بقلم / عزة مختار

تمر الأمة بفترة حراك وغليان عميقة بعد فترات موات واستيطان وتغريب وتسليم مطلق لقوي الغرب الاستعماري في القرنين الماضيين

كما مرت كذلك بفترة ربما هي أشق من فترة ذلك الاستعمار وهي فرض هيمنة الجيوش العميلة والأفكار المتغربة علي بلادنا بعدما ضمن الاستعمار ولاء هؤلاء له أكثر مما لو ظل يحكم هو بجيوشه متعرضا للخسارة والاستنزاف البشري والمادي نتيجة صحوة هذا الشعوب وإصرارها علي التحرر

وظل الشرق العربي يمثل محورين هامين للغرب ، فهو المعين المادي الأول بنفطه وخيراته ، وهو كذلك الذي يحوي فكرة الإسلام التي يخشاها ويعلم جيدا أنه لو تحرك ذلك المارد في عقول وقلوب أهله لكان للشرق العربي المسلم شأن آخر

وظل عملاء الغرب يعملون علي هذين المحورين جيدا

فلا الشعوب العربية استطاعت أن تنعم بخيرات بلادها من ناحية

ولا استطاعت من ناحية أخري أن تعود لدينها الذي يحمل فكرة النماء علي كل المستويات

النماء المادي والنماء الإنساني وهما عنصري أي حضارة  

فالإنسان يعمل في المادة ويتحكم بها ليصنع حضارته ويطوعها لخدمته أو القضاء عليه

أما أن تتوقف الآلتين معا فهذا التوقف هو عملية الثبات والسكون التي أرادونا عليها دائما

 ومن سنة الله عز وجل ألا يستمر ملك ينبني علي الظلم ولا تعلو رايته حتى تسقط ، إما يسقطها الله بإضعاف ملكه أو بتقوية الضعيف ، وهي سنة ربانية نافذة باقية بقاء الزمان أزلا وأبدا .

وأري أن عالمنا العربي رغم شدة ما تعرض له من تعمد لإضعافه وتسكينه وتحييده وتجهيله ، إلا أنه استطاع في الخمس سنوات الأخيرة أن يري بعض معالم الطريق وينتفض لأول مرة بوعي وإرادة حرة جعلت الموت في نظره أهون من حياة العبودية ، وبذل الحياة أهون من بذل الكرامة ، وأن الحرية لا توهب ، ولا تأتي من أروقة العسكريين ، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بقوة مثلية مهما كان مظهرها حتى لو كانت قوة سلمية ، قوة من الإرادة والحب والتعاون والإصرار علي إكمال مسيرة الطريق مهما كانت التضحيات

ورغم القمع الأمني في كل بلاد العرب إلا ما رحم ربي إلا أن العرب والمسلمين في أعلي حالاتهم وفي فترة ايجابية من فترات تاريخهم الحافل

ورغم نكوص كل ثورات العرب وتراجعها ظاهريا إلا أنني أري أن تلك الثورات عادت أقوي من بدايتها بكثير ، فقد كانت ثورات بغير هوية ، بغير عنوان ، بغير هدف واضح ، بغير معرفة بصعوبات الطريق ، أما اليوم فقد تباينت الصفوف ، ورفع كل شعاره ، وعرف من القوي ومن الضعيف ، وعرفت بداية الطريق ونهايته ، والثائر اليوم يعي جيدا ما يريد ولن يعود إلا بتحقيقه بعنوان وهوية واضحين

والمرزوقي هو أحد إفرازات حالة الغليان تلك التي تمر بها بلادنا ، أتت به الثورة التونسية علي رأس حكمها ، تعرض لمؤامرات متتابعة لقلب نظامه كشأن كل دول الحراك ، لكن ربما لجيش تونس طبيعة خاصة من الوطنية والصدق في خدمة بلاده ما حمي الثورة حتى اليوم ولو نسبيا  ، وبرغم أن الأداء الرسمي في تونس لم يحل مشكلاتها بعد ، ولم يرقى لجزء من طموح الشعب التونسي بعد فترة من الثورة ، إلا أنني لست هنا في مقام تقييم أداء الرئيس أو حكومته بقدر ما أريد توضيح بعض معالم فكره وهو واحد من هؤلاء الذين طلقوا علي أنفسهم ليبراليين ، فمنهم من صدق في دعواه ومنهم من نكص علي الفكرة ولم يأخذ منها غير الاسم ، وكان أول من انقلب علي فكرة يدعيها

والحرية ليست حكرا علي دين ، وليست حكرا علي فكرة ، وليست حكرا علي طائفة ، الحرية تنبع من إنسان يتصف بها ، فهو حر في ذاته ، يحمل فكره وينطلق به و منه داعيا إليه ويتعامل مع الناس به ، أيا كانت عقيدة هذا الحر

الفكر الاستبدادي والسلوك العربي

وفي هذا الخصوص أود أن  أقدم اعترافا يخصني وحدي  ، نحن كعرب وشرقيين عامة درجنا علي الفكر الاستبدادي منذ الصغر ، ابتداءا من البيت الذي لا يسمح فيه برأي غير رأي " الكبير " ، ثم المدرسة  فالجامعة ونظم التعليم التي تقتل الإبداع والمبادرة ولا تعرف إلا بالرأي الأوحد ، ثم بممارسة الحياة العامة فلا نفاجأ بالأنظمة القمعية التي تحكمنا ، فنري هامش أي حرية للتعبير فضل منهم ونعمة يجب أن يحمدوا عليها  

فكرة الاستبداد تربينا عليها دون أن ندري ، وحين تعرضنا للعمل العام طولبنا نظريا بأساليب أخري مثل الاستيعاب والتعايش وقبول الآخر والديمقراطية والحرية وحكم الأغلبية وما إلي ذلك من أفكار نتغني بها  دون أن نطبقها فعلا علي عالم الواقع

وحين تحركت الشعوب وجدنا أنفسنا وجها لوجه مع التطبيق وليست الفكرة المجردة ، وهنا كان المحك الأعظم لكل التوجهات الفكرية ، لم يثبت في الاختبار العملي حقيقة إلا القليل

ومدعي الليبرالية في بلادنا كثيرون ، وجدناهم أول من انقلب علي أفكار الاستيعاب والتعايش لمجرد أن أتت الرياح بإسلاميين علي رؤوس الحكم ، حتى داخل الإسلاميين أنفسهم حدثت تلك التمايزات ، ووجدنا بعضا ممن ينتمون اسما للإسلاميين يتصدرون مشهد الخيانة والسقوط جنبا إلي جنب مع من ادعوا التحرر لسنوات كنا بهم  كشعوب مخدوعين

واهتمامي بحديث المرزوقي ليس لمجرد أنه رئيس أفرزته ثورة ما زالت ظاهرا متماسكة حتى اليوم ، وإنما لأنه رجل ينتمي لليبرالية الحقيقية كما وصفها  أهلها ، أنصف في حديثه  الثورات العربية ، وأنصف الإسلاميين  الذين يجعلهم في " القلب " من الثورات العربية

البركان العربي لا الربيع و مصطلح جديد للثورة

بداية تحدث المرزوقي عن الربيع العربي وأنكر الاسم علي ثورات العرب ، وقال إنما هو بركان عربي ، فالبركان تظل الأرض تغلي به سنوات ولا تهدأ حتى يثور ، ثم لا يهدأ ويستقر حتى يخرج لنا أفضل ما في باطن الأرض من معادن وخيرات قد تدفع الأرض ثمنها طويلا حتى تخرجها

ثم إن الربيع هو فترة زائلة تأتي وتنتهي ، والثورات العربية لم تخمد ولن تهدأ حتى تؤتي ما تريد وقتما تخرج كل ما فيها

وحن تهدأ تكون الصفوف كلها قد تمايزت ، وتخلي من تخلي وثبت من ثبت ووضحت الأفكار والمذاهب وعرف الشعب قدر كل فكرة واختار منها


ستظل فترة ثورة البركان في صراع كبير بين الأنظمة القديمة والأنظمة الوليدة التي يختارها الشعب  ، في فترة حراك كبير قد يخطئ وقد يصيب في الاختيار لكن ثورة البركان لن تهدأ حتى تأخذ كل الفكر أماكنها التي تستحقها

فلطالما بقيت أسباب الثورة ، فسوف تظل الثورة قائمة ولن تهدأ

في نقطة أخري وجه المرزوقي رسالة واحدة لكل الأطراف المتصارعة ، ثوار ومن انقلبوا علي الثورات , فالثورة  تقيمها أسباب ، وإن لم تتنافي تلك الأسباب والعوامل ، وظلت أسباب الثورة قائمة ، فلن يوقف استمرارها مزيدا من العنف الأمني للأنظمة في مواجهة شعوبها

وأؤيد هذا الطرح تماما فليس معقولا أن تقوم الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير ويدفع الشباب دمهم ثمنا لحريتهم ، ثم يأتي انقلابي ليحصد كل هذا ثم يدفع بمزيد من القمع الأمني ويتصور أن المقام سيطيب له  ، إنه درب من الجنون من يحسب ذلك ، فقد تك كسر حاجز الخوف من الموت ، وذاق الناس طعم الحرية وعرفوا كيف يسيرون في دروبهم أحرارا ، فليس من السهل بعد كسر ذلك الحاجز أن يعود احد لما كان عليه يوما

وفي حديثه عن الرئيس المصري المختطف محمد مرسي فيما اتخذه من إجراءات لضمان مزيد من الحرية للإعلام والإعلاميين  قال أن الرئيس مرسي لم يخطئ في قراراته ، فليس من المعقول أن نلوم من أعطي الحرية ، بينما الأصل أن نلقي باللوم بل ونحارب المستبد ، إنما اللوم كلها علي من استغل تلك الحرية في التعامل والاتفاق مع الخونة  الذين انقلبوا علي إرادة الشعوب

وفي هذا الإطار أوجه رسالة لأهل بلادي ومنهم من هم ضد الانقلاب يعتبون علي الرئيس المنتخب أن أطلق الحريات خاصة للإعلاميين ، وحقيقة الأمر كان يحتاج لتقنين ، لمن تمنح الحرية ومن يذهب للمقصلة ، لكن لا يجب أن نرجم الحر ولا نوجه كلمة لمن انقلب علي الحرية خاصة بعد ثورة تاريخية كالخامس والعشرين من يناير ، أوجه لهم رسالة أن يرحموا الأحرار قليلا ، وكفانا جلدا للذات ، المراجعات لا بد منها ، ومحاسبة المخطئ واجبة ، ومع كل هذا لا يجب أن ننسي من خان ومن باع ومن انقلب ومن قتل وما زال يعمل آلة القتل في البلاد والعباد

وفي براعة السياسيين الذين يراعون مصلحة بلادهم ، اعترف بأن بلاده دولة صغيرة ، لا يهمه إلا مصلحتها والنهوض بها والتعامل من يدعم لها ذلك واصفا إياهم بكل الأطراف حين سأل عما يحدث في ليبيا

فلسطين منبع البركان العربي

ومفكرا رأي المرزوقي أن ثورة أطفال الحجارة التي قادها أطفال فلسطين يوما ، هي من صنعت ثورات بركان العربي اليوم ، وسوف تظل فلسطين منبعا وإلهاما لأهل الحق حتى تنتصر الثورات العربية ويتقوض ذلك الكيان السرطاني المسمي مجازا بإسرائيل

إن الرئيس التونسي له ما له وعليه ما عليه ، لكنني وجدت جانبا مفكرا ، وليبراليا صادقا ، وحرا يتعرض لمحاولات انقلاب يفشلها جيش بلاده الوطني  فكان لزاما علينا أن نقدم له التحية ، ولكل الثوار علي طريق البركان العربي الثائر .