بقلم - عزة مختار
 
وكم في التاريخ من دروس وعبر يتغافلها أهل كل زمان فيقعوا فيما وقع فيه من قبلهم لتتكرر أحداث التاريخ كما هي دون أن يتعلم أحدنا من سلفه ، وتمر ببلادنا اليوم أحداث جسام ، ربما هي - في نظري - نقطة تحول كبري في التاريخ  بانتهاء حضارة وبزوغ فجر حضارة أخري ، ومع أن كل الشواهد تقول بغير ذلك كما يحسب البعض بأن الأمة الإسلامية في أضعف حالاتها حيث تكالب عليها خونة العالم كله فلا تكاد تري مشهدا فيه دماء إلا كانت دماء مسلمين ، أما إن كان التناحر بين مسلمين فتجد تلك الدماء لإسلاميين ، إلا أنها في نظري فترة خصبة لميلاد أمة من جديد في ظل حراك شبابي لجيل حر أبي إلا أن يدفع ثمن حريته من دمائه ، ولا أعتقد في موت أمة تبذل دماءا في سبيل الحياة والحرية أبدا .
 
وبداية التغيير في أي قضية  كثيرا ما ترتبط بالأقلية ، لكنها الأقلية المؤثرة الايجابية المتحركة في المتجمع  ، كما أن لفظ القلة ارتبط في كتاب الله بالصحة " وقليل من عبادي الشكور " ، " وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " كما نجد أن لفظ الكثرة  مرتبط بمعني مغاير " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " .
 
وحديثي يدور حول محورين هامين من دروس التاريخ ، خاصة التاريخ القرآني :
 
المحور الأول : ما هو واجب تلك الفئة المؤمنة " القليلة " أو بمعني آخر ما هو دورها المجتمعي في عملية التغيير المنشود للوصول للهدف المراد تحقيقه ؟
المحور الثاني : متى يتحقق النصر العام للأمة 
 
المحور الأول : يقول الله تعالي في سورة الأنفال  :
 
" وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" 25
والفتنة هي الابتلاء ، أو البلاء ، أو الاختبار الشديد ، والمطلوب من تلك الفئة ( القليلة ) ألا تسمح لفئة أخري ولو كانت تمثل الكثرة بالظلم بكل أنواعه ، سواء تظالم فيما بين الأفراد ، أو ظلم الحاكم للرعية ، أو ظلم المجتمع لنفسه بعدم الركون لشرع الله ، فتأخذ علي يد هؤلاء قدر استطاعتها ، وبالوسيلة المناسبة للأخذ والمنع من التمادي في الإفساد
 
وفي صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة - اقترعوا -، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميع .
 
وحين يبدأ السكوت علي الظلم يستشري داءه في المجتمع إن لم يتصدي له أحد وحين يأتي البلاء فسوف يعم الجميع ، الظالم حتى يكف عن ظلمه أو يهلكه الله ، والصالح حتى يصير مصلحا أو يهلك مع الهالكين .
 
إذن فالمهمة ليست التغيير الكلي للعالم وإنما فقط عملية الحراك في التصدر لظاهرة الظلم ومحاولة تغييرها .
 
في المجتمع المكي كان صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم هم القلة فيه ، لكنهم تربوا علي يد النبي واستقوا من القرآن آية بآية حين نزولها فتشربوها حتى صاروا آيات تمشي علي الأرض ، كانت دار الأرقم بمثابة المدرسة والملاذ والمعين ، وكانوا رجالا يفدي أحدهم نبيه بحياته ولا تصيبه شوكة ومع هذا لم تقم بينهم وبين الكافرين حربا ، ولم يحدث لهم نصرا مؤثرا كنصر بدر مثلا ، وإنما كانت تأييدا من الله بالهجرة إلي الحبشة مثلا ، أو بإسلام عمر بن الخطاب أو حمزة بن عبد المطلب ، أو نجاحهم في الهجرة إلي يثرب سالمين ، فهي انتصارات مرحلية وليس انتصارا ظاهرا أو مغيرا للوضع ، بمعني آخر أنه حتى تقوم للإسلام دولة ، يجب أن يكون هناك ظهيرا شعبيا وأغلبية من الناس تقيم تلك الدولة في نفوسها أولا لتقوم علي أرضهم ، ويدافعون عنها خارجيا وليس داخليا مثلما حدث في المدينة بعد الهجرة ، إذ كانت المدينة للإسلام أرضا ثابتة وصلبة ومعظم أهلها يؤيدون الفكرة ، ومن بقي منهم إلا منافقا يظهر إسلامه فكانت غزوة بدر لتنتهي بفتح مكة وتنطلق منها الفتوحات الإسلامية كلها
إقامة الدولة المسلمة لن تكون بفئة قليلة داخل مجتمع يرفض فكرتها وربما يكون كلامي هذا صادما للبعض ، وإنما تكون بأغلبية مجتمعية ولو كان هذا المجتمع قليلا بالنسبة لخارجه
 
المدينة المنورة كانت حصنا للفكرة رغم قلة عدد أهلها ، لكن هذا العدد القليل كان معظمه يعمل لصالحها .
 
المحور الثاني
يقول الله عز وجل : " وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ .
 
وكانت الفئة المؤمنة كما ذكرنا قليلة مستضعفة ، عاش أصحابها مطاردات وعذابات كثيرة ومتعددة  من طرقات مكة التي شهدت أنات بلال وآل ياسر مرورا بدار الأرقم وحتى إخراجهم من بيوتهم للحبشة ثم المدينة ، ثم تحول المستضعفين في الأرض لأقوياء كثيرين ، آواهم الله عز وجل وأيهم بنصره في بدر والأحزاب وفتح مكة حتى صارت للمسلمين دولة تكون منطلقا لنشر الدعوة في ربوع الأرض وتحرير أهلها من ربقة حكامهم الذين احتلوا درجة الآلهة ، ثم يخلي الإنسان بينه وبين ما يختار بكامل حريته
 
يقول الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد :
 
1 ـ الأمة التي لا تشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية
2 ـ الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج
3 ـ يجب قبل مقاومة الاستبداد هيئة ماذا يستبدل به الاستبداد
 
وقد يفرح الطغاة بتلك القواعد ظنا منهم أن السلمية واللين هي وسائل من السهل قهرها والسيطرة عليها ، لكنهم في ذلك واهمون حيث أن هناك الله العلي العزيز الجبار الذي ينصر المظلوم بدعوة ويقهر الظالم بهفوة .
 
إذن فالأمة التي الذليلة التي ارتضت بالهوان لن يكتب لها نصر أو عزة حتى تنتفض كلها أو معظمها ، وما علي الفئة القليلة في ذلك إلا أن تجتهد وتربي وتدعو وتوقظ النيام حتى تكسب تلك القاعدة الشعبية التي ترتكن عليها وتلك الأرض الثابتة التي تنطلق منها قال الله تعالي في سورة الحديد " قَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ ...، نعم ، ليقوم الناس ، كل الناس وليس طائفة منهم بالقسط  ، ولن يقيموه قسرا ، وإنما بدعوة وسكينة واطمئنان ورحمة وموعظة حسنة .
 
وقد يحسب البعض أن في كلامي يأسا ، وأنا أنف ذلك تماما ، ولكن لله سنن جرت علي سيد الخلق محمد صلي الله عليه وسلم ، وهي سنة التدرج والحراك الذي لا يتوقف ليل نهار " مضي عهد النوم يا خديجة " ، وأنه ليس علينا التسرع في قطف الثمار قبل أوانها وإلا فلسوف ينقلب نفس ذلك الشعب علينا _ وقد فعل 
 
واجبنا اليوم أن تعود تلك القلة المستضعفة للركون إلي جنب الله ، وأن تلتمس منه العزة والمنعة ، وتسأله أن يفتح لها مغاليق القلوب ، وليس فقط مقاومة الظالم ، وإنما الحركة داخل المجتمع بالدعوة  إلي الله والتربية التي نسيناها داخل أروقة السياسة ونسينا أن تلك الأخيرة ما هي إلا جزء داخل المنظومة الإسلامية  وطرق مغاليق القلوب ، وألا ننسي بداية أننا دعاة وأننا ما جئنا إلا لهداية الناس وليس لكسبهم أو محاربتهم ، كرسي الحكم ما هو إلا وسيلة للأخذ بأيديهم نحو تطبيق مبدأ الاستخلاف حيث أرادها الله بتعمير الأرض وهداية الخلق وتحرير الإنسان ليملك حرية الاختيار
 
ونحن في طريقنا إلي الإصلاح والتغيير المنشود لا يهمنا كسب معركة بقدر ما يهمنا هداية قلب ، وإيقاظ مجموع الناس ، فالإسلام لم يقم يوما في أطراف مدينة ، ولا يجوز أن ننعزل به في جبل ، أو أن يطبق داخل مجموعة من الأفراد يغلقون عليهم أبواب ، إنما الإسلام جاء لينظم حركة المجتمع بالجميع ، ليس كالنصرانية أو اليهودية التي أتت للفرد وحده ، ولذلك أيضا كانت عبادنا معظمها في جماعة ووقت واحد ، حتى العبادات القلبية مثل الصبر لن تطبق إلا بمخالطة الناس والصبر عليهم حتى يعودوا ويئوبوا
إن توقفنا عن محاربة المستبد فلسوف يذهب الله بنا ويأتي بقوم غيرنا ، وإن تعجلنا السبيل خسرنا  الهدف والوسيلة معا .