حازم سعيد :

مر عام على أحد أخطر وأكثر الأحداث دموية وكارثية ، لا أبالغ إن قلت في تاريخ البشر كلهم ، وليس في تاريخ مصر أو العالم الإسلامي والعربي فقط ..  هذا من ناحية العموم .

وعلى وجه الخصوص هو أخطر وأفظع وأدمى حدث أثر في كاتب هذه السطور أثاراً لعله لا يتعافى منها ما بقي له من العمر ...

فأما ماذا وجدت في هذا الحدث الكارثي ، حدث فض رابعة فأكثر من أن يحصى أهمه :

1. أني وجدت الله سبحانه ، في قضائه وقدره ، وفي آياته المعجزات ، وفي تدبيره المحكم ، وفي الأحداث التي قد يظنها الرائي شراً لنا ، وهي الخير كله ، ولنعلمن نبأه بعد حين .

وجدت الله سبحانه في اصطفائه للشهداء ، وفي ابتلائه للأولياء والصالحين ، وفي حفظه لبعض الرجال المؤمنين رغم ما حرصوا هم عليه من الشهادة وتعريض النفس للأخطار المهولة والموت المحدق والأحداث الجسام ، وفي تقديره بالحفظ والنجاة من الحبس لبعض الصالحين الذين ما كان لهم إلا أن يعتقلوا ، وتقديره لآخرين بالاعتقال وما كان لهم وفق الأسباب المادية العادية أن يعتقلوا .

وجدت الله سبحانه في فضحه للمنافقين وكشفه للمستور ، وهتكه للدسائس والمؤامرات ، وخذلانه لأهل الباطل ، وأيضاً في حلمه عليهم وإمهاله لهم .

وجدت الله عز وجل في تثبيته للمؤمنين ، وتنويره بصائرهم ، وكشف الحقائق لهم وكأنهم يرون الجنة والنار والنصر الموعود ، وفي إعطائهم العزيمة الصادقة على المضي قدماً والاستمرار في الطريق رغم مشاقه وعوائقه ، وفي تحليهم بالأمل والتفاؤل وإلهامهم البشر واليقين في النصر رغم القتل والحبس والاعتقال والمطاردة والتشريد وغلبة الباطل الظاهرية .

2. وجدت الثقة في المنهج والطريق ..

وأذكر أني في أحد معسكرات التصعيد من مستوى إخواني لمستوى آخر قال لي المسئول عن المعسكر : هل تعلم أنك بسلوكك هذا الطريق أن آخره رصاصة أو حبل مشنقة وأن الطريق ملئ بالعقبات والتي أخفها السجون والمعتقلات ، فهذا هو الطريق الذي سلكناه بإرادتنا الحرة وتربينا عليه ، وكما قال فضيلة المرشد الدكتور بديع : " لم نكن نهذي حين قلنا : والموت في سبيل الله أسمى أمانينا " .

وقبل ذلك كله وبعده نرتل آيات كتاب الله الكريم التي تؤكد طبيعة الطريق ومشاقه ، وقالها ورقة بن نوفل لنبي الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلمه أن قومه مخرجوه وتساءل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : " أو مخرجي هم " فقال له ورقة : " نعم ، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي " .

لقد تمثلت صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ( هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ) .

ولقد تمثلت أحد خير أهل الأرض في زمن الدجال بعد أن مكن الله سبحانه بقوته الدجال فقتله ثم أحياه ، فقال له الرجل الصالح : ( ما ازددت فيك إلا يقيناً ) .

3. وجدت ثبات أهل الحق على حقهم ..

فوجدت إخواني الذين يؤثرون على أنفسهم , ووجدت إخواني الذين يقدمون الغالي والنفيس فداءاً لدينهم وعقيدتهم ، وجدت حراس الأبواب ممن هم في أسمى مراتب الدنيا اجتماعياً ومادياً ينخلعون من ذلك كله ليقفوا حراساً على أبواب الاعتصام فتصيبهم الرصاصات الخائنة الغادرة ..

وجدت إخواني الذين يحرصون على الشهادة وهم يفتدون إخوانهم بأجسادهم ويقدمون أرواحهم مسترخصينها – وهي غالية عند ربهم –

وجدت صور البذل والعطاء والثبات والتضحية نادرة من إخواني وأخواتي وهم يرون أن ما يقدمونه لا يساوي شيئاً بجوار نعم الله سبحانه وفضله أن دلنا على هذا الطريق .

4. وجدت السلفيين الحقيقيين .. أصحاب المبدأ والغاية ، الذين وقفوا تحت لواء الحق ، وقدموا نماذج فذة في الولاء والبراء فانحازوا للحق وأهله وقدموا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله فكان منهم الشهداء والمعتقلون والباذلون من أجل دينهم وابتغاء مثوبة ربهم .

5. وجدت العلماء المجاهدين ورثة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين يرون الحق ويعلمونه للناس ويثبتون عليه ولا يخافون فيه لومة لائم من أمثال الدكتور القرضاوي والدكتور البر والشيخ الشافعي والشيخ محمد عبد المقصود والشيخ سعيد عبد العظيم والدكتور صلاح سلطان ...

6. وفي مقابل ذلك .. وجدت خسة العلمانية وحقارتها ، ورأيت الوجوه الكالحة الشائهة التي طالما صدعتنا بمبادئ وقيم لم يتحلون بها .

وشاهدت العلمانية بوجهها الحقيقي القبيح ، الذي يكره الحق ، ويكابر ويجادل ضده مجادلة خسيسة ويرفضه طالما جاء بالإسلامي ، رأيت الوجه العلماني الكاره للدين ، السارق للأوطان ، السافك للدماء ، المستبيح لكل الحرمات بلا ضابط ولا رقيب ، وبفجور ووقاحة لا متناهيين .

7. وفي المقابل أيضاً .. رأيت نماذج مما تحدث عنهم التاريخ الإسلامي وجسدهم في خستهم ونفاقهم ، ولم أكن أتخيل – بسذاجتي – أني يمكن أن أراهم ، فوجدت الشيخ المفتون من أمثال الهلباوي والخرباوي ، ووجدت المنافق عليم اللسان من أمثال علي جمعة وعبد الجليل سالم ، ورأيت شيوخ السلطان من أمثال برهامي ومخيون ورفاقهم من مدعي السلفية ، ورأيت الجاهل المتفيقه عليم اللسان الذي ينافق ببضع كليمات علمها ولا يعرف غيرها من أمثال عمرو خالد والشرنوبي ، ورأيت الشيخ الساكت عن الحق في وقت كان ينبغي فيه أن يصدع به فلم يجده المسلمون من أمثال محمد بن إسماعيل والشيخ أبو إسحاق والشيخ حسان والشيخ يعقوب ، بل وجد الناس بعضهم مثبطين ، ووجدت الحاسد لرفاقه المتنكب عن طريقهم لحرصه على الإمارة والزعامة من أمثال أبي الفتوح وحبيب .

 

أما ماذا فقدت في فض رابعة :

فربما أتحول بالمقالة منحى أبث به لك همي أيها القارئ العزيز ، فما فقدته في رابعة كثير وكبير وعزيز ..

1. وأول ما فقدته أحباباً لي هم دمي الذي يجري في عروقي ..

فقدت أيمن الشافعي وعادل العناني وأمثالهما من الصالحين ، وما أدراك ما أيمن الشافعي وما عادل العناني بالنسبة لي .. إنهم قطرات الدم التي تجري في عروقي ، وهما النسيم العليل الذي يروح الله به عن الإنسان همه وغمه ، إنهما العطاء المتجسد في مؤمنين مجاهدين ، إنهما خبيئة العمل الصالح وصدقة السر التي لا يعلمها ولا الملائكة المقربون ، إنهما الصديق الصدوق ، الذي يحفظك في غيبتك ويصدقك في النصيحة ، ويحوطك ويكفلك بعد إحاطة الله رب العالمين في دينك وأهلك ومالك ونفسك ...

لقد فقدت معهم البسمة الصافية ، والنفس المؤمنة البسيطة الهادئة الوادعة التي تسالم الدنيا كلها ، فقدت معهما ما تستطيع أن تسميه حديثك لنفسك بلا حرج ولا خجل ، وأنت تشكو لها أي شئ عن شأنك ، فإذا بهما يجيبانك وينصحانك ويتكافلان معك ، ولا عجب فهما نفسك التي بين جنبيك ..

كسر في نفسي بفقدهم هم ومن غيبتهم الأحداث بالسجون أو خارج البلاد .. كسر في نفسي شئ كبير ، وكبير جداً ، فلم أعد أطيق جواراً ولا قراراً ، ولم أعد أستطيب طعاماً أو شراباً ، ولا أعلم لما كسر رأباً ولا إصلاحاً !

ولئن جلست أكتب عنهما وعن غيرهما من الشهداء أو المعتقلين أو المغيبين خارج البلد من كل المدن التي أقمت فيها فلسوف أبكيك عزيزي القارئ أياماً ودهوراً ..

عزائي أنهما وباقي الرفاق ماتوا الميتة الشريفة التي طالما قلنا أنها أسمى أمانينا ، وأملي أن يتقبلهم الله سبحانه في الشهداء وفي عليين وفي رفقة نبيه الكريم ..

2. فقدت إحساسي بكثير من أبناء هذا الشعب السلبي المستكين المغلوب على أمره ، الذي لم يقدر قيمة الحرية ، والنعمة التي أعطاها الله له ، فإذا به يهرول للجلاد ويستدعي العبودية له ليتلذذ بسادية لا يعرف مدى خستها ووضاعتها .

فقدت إحساسي بكثير ممن يعاني من الفقراء الذين طالما أغدقنا عليهم من أعمال البر فإذا بهم أول من يسلموننا إلى الشرطة والبلطجية ، حتى قال قائلهم : " امسك ده ، دا من الإخوان ، أنا عارفه كويس ، هو اللي كان بيجيب لأمي الفلوس أول كل شهر " .

أصبحت لا أطيق أن أعطي سائلاً ، لأني أعرف أنه هو نفسه الذي ساهم في قتل أخي الشهيد أو اعتقال أخي المسجون ظلماً ، أو إبعاد أخي المضطر الذي سافر خارج البلد ، ولا أستطيع حتى الآن أن أتمثل معهم : ( ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة ... ) فلا أراهم ممن يوصل أو يبر أو يكرم .

3. فقدت مع ذلك مجموعة مما كنت أقول عنها أنها قيم حضارية ، فأصبحت ألقي بالأوراق والمخلفات في قارعة الطريق غير عابئ بما تربيت عليه قبل التزامي أو بعد سيري في هذا الطريق وأنه من شعب الإيمان .. فلم أعد أهتم بما يمكن أن يلحق بأذى أو ضيق لعامة هذا الشعب المستكين الذليل من جراء هذا السلوك .

4. فقدت احترامي وبشكل كامل لما كنت أظن أنه مؤسسة وطنية ( الجيش ) فإذا به مجموعة من المرتزقة والبلطجية يمسكون أسلحة تفوق قدرات خصومهم فيتجبرون على شعبهم ويسرقون مقدراتهم ويقتلون أبناءهم ، كنت دائماً أعلم أن العلمانية تغلب على الجيش ، ولكن لم أكن أعلم أنه بهذه الدرجة من الحقارة والوضاعة !

أما الشرطة والقضاء والإعلام ، فلم أحترمهم يوماً ما ، وكنت ولا زلت أعرف أنهم بلطجية ومرتزقة ولصوص .

 

يبقى توضيح أخير وهو أني رغم ما فقدته ، فإني لم أفقد اليقين والثقة التامة والمطلقة في النصر القريب المتحقق إن شاء الله من رب العالمين ، ولم أغتر أو أنخدع أو أرهب الغلبة الهشة الظاهرية الخادعة لمعسكر الباطل ، وأعلم أنهم ليسوا على شئ ، وأن بناءهم أوهن من بناء العنكبوت . وأعلم أن نصر الله أقرب إلينا مما نظن .. وإن غداً لناظره قريب ..

 

كبسولة : حزب النور يتحالف الآن مع رموز من الحزب الوطني ( من غير المشهورين ) في المحافظات لينزلوا على قوائمه لأنه يعجز أن يكمل قوائمه بأشباه المتدينين ، المشكلة إن السذج والدروايش لا يعرفون أن دورهم انتهى ، ويستميتوا لأن يقنعوا أنفسهم بأن لهم دور وأنهم مستمرون ، ويحسبون أنهم على شئ ، وهم أصلاً لا شئ !

 

اقرأ أيضاً : 

إلى العناني والشافعي في ذكراهم

في ذكرى مائة يوم لاستشهاده .. أيمن الشافعي البسمة التي غابت

بعد ستة أشهر من فض رابعة .. الرصاصة لا تزال في صدري

----------

[email protected]