حازم سعيد :

تمهيد :

أكتب هذه المقالة كنوعٍ من الرثاء للأستاذ الراحل العظيم محمد قطب أحد أعظم المنافحين عن الهوية الإسلامية ضد العلمانية وضد التمييع وضد التبعية للغرب ، وقد فكرت أني مهما كتبت في تمجيده شخصياً فلن أعطيه قدره ، فرأيت أن من أفضل الرثاء له والوفاء بحقه وحق أمثاله من السادة العلماء هو أن يروا أنهم خلفوا أجيالاً تعيش على منهجهم ورؤيتهم وفكرهم من حب الإسلام وأهله والفخر بالهوية الإسلامية ، وبغض الباطل وحزبه وكره الهوية العلمانية الغربية .. رحمك الله أيها الراحل العظيم ورزقك الفردوس الأعلى من الجنة وجمعك بمن أعلنت أنك تحبهم وتفتديهم وتعلي منهجهم : النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه ومن تبعهم من الصالحين ... اللهم آمين .

 

الموضوع :

مر على الانقلاب العسكري الغاشم حتى الآن ثمانية أشهر ورغم ذلك لا زالت ثورتنا متوهجة وشعلتها متقدة ، ورغم أن الانقلاب في الظاهر يمهد لزعيمه " الهاشتاج " لتولي سدة الحكم إلا أنه في حقيقة الأمر يخسر كل يومٍ أرضاً جديدة ، وتزداد ثورة الشرعية وأهلها رسوخاً على الأرض ويكتسبون كل يومٍ مزيداً من الجمهور والحشد والإقبال والنصر والثبات ، لهذا كله أسباب نسردها في هذه المقالة :

 

كيف هو استعمار أو احتلال عسكري ؟

من أعظم ما تحدث به عظماء الفكر الإسلامي المعاصر وعلى رأسهم الراحل العظيم الأستاذ محمد قطب – رحمه الله – في " واقعنا المعاصر " ، كيف أن الاستعمار الصليبي لبلادنا خلف ورثته في سدة الحكم وصدارة مجتمعاتنا العربية الإسلامية ، وأنهم مارسوا مناهج تعليم وتربية وتثقيف واجتماع وإعلام ضيعت الهوية ومسخت الشخصية العربية الإسلامية ، وأورثت الوهن ، وترسخت لديها الأنانية وحب الذات والبعد عن الدين ، وأسست عندها الولاء للغرب والاستعمار والبراء من التاريخ والهوية الإسلامية ، وأنهم لم يغادروا بلادنا إلا بعد أن اطمأنوا لهذا الأمر وأن القادة من بعدهم تركزت فيهم هذه الصفات بما يضمن تمام التبعية والكمال للغرب وللاستعمار ...

التجسيد المثالي لهذا الذي تحدثوا عنه تجده في الانقلاب العسكري الذي قام به الخائن السيسي مع ثلة المتآمرين معه .

الاستعمار عندما غادر مصر – بالظاهر – في سنة 52 ، كان وعلى مدار أكثر من سبعين سنة منذ 1882 قد تلاعب بكل منظومة القيم المصرية العربية الإسلامية ، وكان قد ضيع كل شئ عن الهوية والدين والأخلاق ، ومسخ الشخصيات الموجودة حتى صارت لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكرا ، فكانت مجموعة جمال عبد الناصر التي تحكمت بكل مقادير مصر ، سجنت الصالحين وأعدمتهم وعذبتهم ، وكرمت الراقصين والراقصات ، فكان أن استدانت مصر من بعد غنى ، وأصابتها نكسة 67 من بعد عزة .

وظلت نفس الشخصيات العسكرية المشوهة الممسوخة تتلاعب في العزبة ( مصر ) كما تشاء ، فهي عزبتها التي ورثتها عن آبائها البريطانيين كابراً عن كابر ، ستون سنة من الاحتلال العسكري التابع للاحتلال البريطاني ، وهاهم العسكر يرفضون تحرر مصر ، فيقومون بانقلاب عسكري غاشم على الشرعية المدنية الديمقراطية التي ظن المصريون أنهم سينعمون بها لأول مرة في تاريخهم ، لتزداد وطأة الاحتلال العسكري لمصر .

بل ويعلنون في تبجح - من خلال برنامج الخائن - أنهم ينوون للشعب المصري أربعين عاماً جديدة من الاحتلال العسكري تنتهي في 2050 ... يا الله .. وكأنه مقدر لهذا البلد في نظر الاحتلال العسكري أن يقبع تحت نيران العسكر أجيال وراء أجيال .

 

نعم هو احتلال ..

وكيف لا يكون ذلك ، وهو يكرس مصر بأراضيها وخيراتها ومقدراتها في يد حفنة لا تزيد عن نيفٍ وعشرين قائد بالجيش المصري ، ومعهم حفنة لا تزيد عن العشرة من رجال الأعمال ( خادمي السلطة ) ؟

وكيف لا يكون احتلال وهو يسجن علماء مصر وأساتذة جامعاتها في مختلف التخصصات ويحرمون مصر من نخبة من أفضل العلماء والأطباء والمهندسين والمعلمين ...

وكيف لا يكون احتلال وقبلته الأولى تجاه الصهاينة الذين يصرحون بكل فخر أنهم يشهدون أعظم فترات علاقتهم بمصر على يد هذا الانقلاب الخائن ، ويكتشف الناس تعديل الانقلابيين لبنود في كامب ديفيد في غفلة من المصريين ، وهو الإجراء الذي لو تم في عهد الحكم المدني الشرعي لقامت الدنيا ولم تقعد .

وكيف لا يكون احتلال وهو يقمع الحريات وينتهك المرأة والطفل ، ويسجن الأبرياء بالهوية ، ويكمم الآراء ويغلق الأفواه والمنابر وينتهك كل حقوق الإنسان ؟

 

أما لماذا لا يستطيع هذا الاحتلال أن يكسر الثورة فلأسباب عدة ..

أولها : فضل الله سبحانه والذي قدر بحكمته أن يكون للحق منافحين عنه مناصرين له مفتدين إياه بالغالي والرخيص ، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : "لَنْ يَزَالَ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ". متفق عليه

وفي رواية أحمد : "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ".

 

ثانيها : الصلة الوثيقة بالله سبحانه وتعالى من قبل أنصار الشرعية عامة والإخوان خاصة :

ولو قارنت المعسكرين لعرفت الفارق ..

معسكر الحق وأنصار الشرعية كل همه وغايته استجلاب رضا الله سبحانه سواءاً على مستوى العبادات الجماعية والكلية من ترسيخ مبادئ العدل والحق والحرية التي أسسها الإسلام ، أو على مستوى العبادات الفردية لكل منتمٍ للشرعية ، وأول مبادئ دعوتنا المباركة : " الله غايتنا " .

ابحث عمن يصلي الفجر في الجماعة ويحرص على الجماعات والصدقات والبر والصلة ، ابحث عن رهبان الليل رافعي الأكف الضارعة المفتقرة إلى الله بكل الذل والانكسار ، ابحث عن طاهري اليد عفيفي اللسان ، ابحث عمن يصون الحرمات ويحفظ الغائب ويرعى الكهل ويصل الرحم ويعين على نوائب الدهر .

ابحث عمن يكرم أهل السنة ويحترم العلم والدين ، ويوالي أهل الإسلام ، ويأخذ الدين من كل جوانبه ، ولا يحقر من المعروف شيئاً وإن صغر .

ابحث عمن يستبشع الحرمات ويتحرى الحلال والحرام في الملبس والمسكن والمأكل ، ويبتعد عن الصغائر قبل الكبائر ، ويتقي الشبهات .

ابحث عمن يمتلئ قلبه شوقاً لله والرسول ولبيت الله الحرام ولإخوانه في الله ولكل صالح محب لله والرسول ، ويعظم شعائر الله .

ابحث عمن يعشق المجاهدين في سبيل الله في كل العصور والأزمان ويعلم أنهم أهله وعشيرته ويفتديهم بالنفس والمال ولا يسترخص دونهم شئ ، ويؤثرهم عمن دونهم ..

ابحث عمن يعلم أنه على ثغر من ثغور الإسلام ويعيش بفقه أهل الثغور فينفر في المنشط والمكره وفي كل وقت وحين .

أشهد عند الله أن هذه هي صفات عامة أهل الشرعية والمنافحين عنها والثائرين من أجلها ، أفينكسر هؤلاء أبداً ؟!

في الحديث رواه مسلم من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ صَلّى صَلاَةَ الصّبْحِ فَهُوَ فِي ذِمّةِ الله. فَلاَ يَطْلُبَنّكُمُ الله مِنْ ذِمّتِهِ بِشَيْءٍ فَإِنّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ. ثُمّ يَكُبّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ".  وقال صلى الله عليه وسلم : " من عادي لي ولياً فقد آذنته بالحرب " .

ما بالك بمن يحارب أولياء الله وخاصته وأهل ذمته ، أفتظن أنه يفلح في سعيه ، أو ينتصر ! هذا ما لا يكون أبداً إن شاء الله  .

وفي المقابل انظر للمعسكر الآخر ومن ينضم إليه والخزايا والفضائح التي تظهر لنا كل يوم عنهم ومنهم ، وما فضيحة مدرب الكاراتيه الحديثة إلا فرع مما هتكه الله من أستارهم ، وما خفي من البلايا والرذائل والخزايا أشد وأعظم ، ولعل كاتب المقالة يعرف فضائح لأهل الانقلاب أفظع مما نشر ، ولولا نهي الله عن إشاعة الفاحشة في صفوف المؤمنين لخاض فيها خوضاً مذلاً للباطل وأهله ..

أفينتصر هؤلاء على أولياء الله ، أنا لا أظن بمؤمن أنه يمكن أن يقع في خطيئة الظن بأن الله يمكن أن ينصر أعداءه وأهل معصيته على أوليائه ، نعم يمكن لأوليائه - لحكمة عنده سبحانه - أن ينكسروا مرة أو ينهزموا مرة ولكن تمام الغلبة والتمكين لا يقع لمثل هؤلاء الفجار على الأولياء أبداً بإذن الله ...

 

ثالثها : استرخاص الحياة الذي تولد لدى أنصار الشرعية :

من أعظم فوائد الفترة الماضية أن الله سبحانه ورث أنصار الشرعية من المؤمنين استرخاص الحياة ، واليقين بدنو الأجل وقصر العمر وقرب الموت ، إن من رأى ما رأينا من القتل والحرق والتمثيل بالجثث الذي اقترفه الانقلابيون ، وإن من يرى الموت الذي يصيب إخوانه ليل نهار في كل الفعاليات بكل شوارع مصر ، لا يتورث لديه سوى اليقين بقرب الموت .

وأنا أعتبر هذا من أعظم الفوائد لأنه يبعد عن قلوب المؤمنين الوهن وحب الدنيا ، أعرف كثيرين من إخواني وأحبابي يخرجون من بيوتهم بنية عدم العودة ، وأعرف كثيرين من إخواني وأحبابي كتبوا وصياتهم وأعدوا عدتهم واستبرؤوا كل من يظنون أن لهم عنده مظلمة .

أعرف كثيرين من إخواني وأحبابي هيئوا أنفسهم للموت في أي وقت ، هذه ليست حالة يائسين مثبطين ، بل إنها حالة أمة مجاهدة ، تعرف قصر الأجل فأعدت العدة للقاء ربها ، وتتيقن من عظيم الأجر عند الله فعملت له ، وتعلم مدى شراسة عدوها فتولد لديها حالة من العنادة والإصرار الرهيب .. هؤلاء لا ينكسرون ، هؤلاء ينتصرون إن شاء الله .

 

رابعها : تدبر سنن الله في الكون والحياة :

الرسول صلى الله عليه وسلم بشرنا بخلافة راشدة على منهاج النبوة تكون في آخر الزمان ، وقد واكب سقوط الخلافة العثمانية أقصى انكسار للأمة الإسلامية ، بعدها بدأ صعود الأمة صوب هذه الخلافة الموعودة .

لن تشهد الأمة المسلمة انكساراً أفظع من اللحظات التي تقطعت فيها قلوب الصالحين كمداً وحسرة على أمة أصبحت مستعمرة استعماراً ظاهراً ، وانكسرت شوكتها وتفتت خلافتها ووحدتها الجامعة ، وصارت تابعة بالكلية للغرب وأهله ، وانحدرت أخلاقها في كل المجالات لدرجة أن بيوت الدعارة افتتحت رسمياً وصارت لها رايات وعلامات ورخصتها الدول الإسلامية وخضعت لأحكام القانون وخصصت لها الشرطة التي تنظم سيرها ، حتى أن الشرطي المختص بإعطاء التراخيص لها سمي بالـ ... وهي التسمية التي أطلقها النشطاء بالهاشتاج على الخائن السيسي تشبيها له بذلك الشرطي المرتبط اسمه بانعدام الخلق وبالترخيص للزنا والفحش .

ومنذ فطن لتلك المأساة الإمام البنا في ثلة من صالحي الأمة المسلمة وعملوا جاهدين على أن ينشروا الوعي بين أبناء الأمة ويقاوموا هذا الانكسار ، والأمة إلى صعود ، والصحوة الإسلامية إلى تقدم وتفوق ، والاتجاه إلى الخلافة الراشدة على منهاج النبوة الأولى إلى اضطراد واقتراب ، نعم هناك عقبات ، ننكسر مرة ، تخمد شعلتنا مرة ، ولكننا لا نتراجع ، بل نتقدم ونستمر ، هذه هي خلاصة ما نتدبره من سنة الله فيما يحدث من أحداث .

بل إني أزعم أن ما نمر به هو مزيد من السير بخطوات سريعة حثيثة نحو الخلافة ، حيث أن هذه الأحداث تصقل وتربي وتهيئ أجيالاً لحمل الأمانة والعبء وتربي النشئ على القضية ، ولو أننا سرنا بهيئتنا السابقة ما تربى نشؤنا ولا أعدوا لحمل أعباء الرسالة كما يحدث الآن ... والله إنها بشارات يراها المؤمنون من وراء الأحداث ، ولتعلمن نبأه بعد حين .

كالعادة .. طالت المقالة ، وبقيت أسباب منها أخطاء العسكر الفادحة وانعدام بصيرتهم وفقدانهم للتوفيق منذ قاموا بانقلابهم الخسيس الفاشل على الشرعية ، ومنها حالة التردي الرهيبة التي تعانيها البلد نتيجة حكم المستعمر العسكري لأكثر من ستين سنة ، وأسباب أخرى كثيرة إن قدر الله قد نتناولها في مقالة قادمة بإذن الله .. نسأل الله التيسير والسداد وأن ينصر الحق وأهله وأن يمكن للمؤمنين ، وأن يخذل الباطل وحزبه ويكسر شوكة المفسدين ، اللهم آمين .. اللهم آمين .. اللهم آمين .

--------------

[email protected]